يواجه الجيش الإسرائيلي إحدى أكبر الأزمات في تاريخه، وهي تسرّب الضباط الذين يتميزون بكفاءات عالية إلى القطاع المدني. برز أول مؤشرات الأزمة منذ ما بعد حرب 2006 على حزب الله، ثم تفاعلت تصاعدياً بفعل التحولات العميقة التي يمرّ بها المجتمع الإسرائيلي، الذي بات لا يفضل رؤية أبنائه «الجيدين» يخدمون في الجيش
كشف موقع مجلة «إسرائيل ديفنس» عن أن الجيش الإسرائيلي يواجه «أكبر أزمة في تاريخه» تتمثل في صعوبة العثور على ضباط برتبة «نقيب» يتولون مناصب كثيرة لا تزال شاغرة.
وعلى خلفية حساسية هذه الأزمة، وما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات تتصل بصورة الجيش، فإن «هذه الأزمة لا تزال بعيدة عن الأضواء، نتيجة حرص الأجهزة الأمنية على عدم التحدث عنها علناً».
في السياق، لفت موقع المجلة إلى أن الجيش «اعتاد ألا يضخ إلى وسائل الإعلام سوى المعلومات التي تلائمه». نتيجة ذلك، «يقتصر الحديث عن أزمة النقباء في الجيش، داخل الغرف المغلقة». لكن هذه الأزمة أكثر ما تظهر تحديداً وسط الضباط الذين ينهون خدمتهم النظامية في القواعد، ويسرعون إلى الحياة المدنية.
الموقع نفسه ذكر في مقالة كتبها رئيس التحرير وأحد أهم المعلقين في إسرائيل، عمير ربابورت، أن «هذه الأزمة تنذر بتدهور مقلق في مكانة الجيش، وصولاً إلى أن تصبح مزايا الخدمة النظامية في العقد القادم مشابهة للخدمة في السجون، ودائرة إطفاء الحرائق وشرطة إسرائيل».
أما عن نقطة بداية هذه الأزمة غير المسبوقة في تاريخ الجيش، فأكد ربابورت أن «المؤشرات على الأزمة الحالية بدأت بالظهور بعد حرب لبنان الثانية» على حزب الله عام 2006، مشيراً إلى أنه لوحظ أيضاً، في الفترة الأخيرة، مؤشرات على مسار انخفاض إضافي في الجيش. وقال: «بالإضافة إلى النقص الحاد في عدد الضباط برتبة نقيب، فإن كل من يتابع الجيش الإسرائيلي منذ مدة طويلة، لا بد أن يلاحظ وجود تراجع نوعي في من يخدمون في الجيش النظامي».
ولفت ربابورت إلى أن الجيش سبق أن واجه أزمات في صفوفه النظامية، أكبرها بعد حرب لبنان الأولى عام 1982، عندما أدى انخفاض الرواتب وتردي صورة الجيش إلى مغادرة عدد كبير من المجندين. في المقابل، أخذ الجيش سنوات طويلة لإصلاح الضرر الذي برز في السنوات 1983 ــ 1985، وهو علاج اعتُمد آنذاك على حساب المهنية، ونتيجة ذلك تولى قيادة الكتائب ضباط بعمر 27 سنة. ووفق قوله، «سبق أن عرف الجيش في الماضي، كيف يُبقي في صفوفه الضباط الشبان المميزين عبر برامج أجور ودراسات ومناصب مهمة، لكن الوضع تغير اليوم». ومع أنه أقر بأنه لا يزال يوجد في الجيش ضباط ممتازون، فإنه عاد ولفت إلى أن «عددهم يتناقص».
نتيجة ذلك، لفت موقع «إسرائيل ديفنس»، التي تعنى بالشؤون العسكرية، أنه «في المحصلة هناك نقص يقدَّر بالمئات في مناصب نظامية أولى، وبخاصة في المنظومات التكنولوجية... الأزمة خطيرة إلى حد أن أهم وحدات التكنولوجيا الأمنية، وهي إدارة تطوير وسائل القتال والبنى التحتية التكنولوجية، يوجد فيها الكثير من المناصب الشاغرة. في التشكيلات القتالية وفي الوحدات اللوجستية غالبية المناصب مشغولة، لكنها ليست الخيار الأول ولا الثاني بالنسبة إلى الذين يخدمون في الجيش».
في هذا الإطار، بات ما يطرد النوم من أعين قادة الجيش المعطيات عن كشف العشرات من الذين يخدمون في القوات النظامية في استمارة دائرة العلوم السلوكية، أنهم يبحثون عن عمل في المجال المدني خلال خدمتهم. ومن يجد عملاً جيداً يترك، ومن السهل نسبياً ترك الجيش حالياً في سن 24 ــ 25 لأن التعويض يتراكم ولا يدفع مالياً، ويستطيع الضباط أن يأخذوا معهم الحقوق التي جمعوها.
أما الأسباب المباشرة للأزمة، فأوضح ربابورت أن أحدها في المنظومات التكنولوجية والعروض المغرية التي تأتي من القطاع المدني، إضافة إلى تقديمات مثل سيارة والازدهار الكبير الذي يشهده سوق التكنولوجيا المتطورة.
في المقابل، نقل موقع المجلة عن الرئيس السابق لشعبة «العلوم السلوكية» في الجيش، ويهتم حالياً بالقوة البشرية في مختلف الأجهزة الأمنية والمدنية، العقيد في الاحتياط، ايال أفراتي، تأكيده أن العروض المغرية في القطاع المدني ليست هي السبب الرئيسي، وأن تدهور صورة الجيش النظامي لا تعود إلى الهجمات القاسية لوزارة المال فقط، بل إن «المشكلة أعمق بكثير وتعود إلى التغييرات العميقة التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي».
وقال أفراتي: «الأم اليهودية حالياً، لا ترغب في أن يخدم ابنها الجيد في الجيش»، موضحاً أن العقد الذي يربط المجتمع الإسرائيلي بالذين يخدمون في الجيش انكسر، والنتيجة التي «سنؤول إليها هي المزيد من الانخفاض في نوعية الجيش النظامي». وذكر أن هذا المسار لا مفرّ منه، وستكون له انعكاسات كبيرة. ورأى أيضاً، أن «هذا الوضع لن يتغير ما دام جنود الجيش النظامي من عمر 22 ــ 23 يخجلون من الظهور ببزاتهم العسكرية».
وبخصوص المراتب العليا في الجيش، من رتبة عميد وعقيد فما فوق، لفت العقيد في الاحتياط إلى أنّ «من المهم أن نفهم أن الجيش سينجح دائماً في ملء المراكز الأولى بأشخاص أكفياء، لأن المسألة مرتبطة بأعداد صغيرة من الناس، وستبقى هناك دائماً مجموعة من الناس بالنسبة إليهم الخدمة في الجيش هي مجال للارتقاء الاجتماعي»، مضيفاً: «في المراتب الأوسع، فإن التغيير كبير والصورة مقلقة جداً، ولن نستطيع المحافظة على جودة القوة البشرية في الجيش الإسرائيلي».