استمرت محاولات ​سعد الحريري​ شهوراً عدة لفهم ما تريده منه السعودية بعد وفاة ملكها عبد الله، صاحب «الأيادي البيضاء» على سعد الحريري وتياره السياسي، ولكن دون جدوى أو بصيص أمل يشفي غليل الرجل ويداوي بعضاً من نزفه السياسي.

قبل ذلك توفي الملك فهد حاضن أبيه وراعيه، وكان الحريري يخطو بثقة نحو زعامة الطائفة السنية في لبنان والتي انعقدت له بعد انتخابات عام 2005 النيابية التي تلت إغتيال والده. لم يشعر الحريري بفرق العهدين سوى مزيداً من الاحتضان والرعاية الملكية حتى أصبح الإبن المدلل «للبلاط الملكي» الذي ترأس ديوانه صديق الحريري خالد التويجري الممسك بزمام الحكم والمسيطر على مفاصل القرار في المملكة.

إلى جانب خالد التويجري، جمعت الحريري صداقة مع ابن الملك عبدالله ومستشاره السياسي عبدالعزيز فشكلا سوياً رافعة الحريري المالية والسياسية وأمداه بنفوذ واسع داخل المملكة من جهة، ومن جهة ثانية أثارت غيرة وحساسية أمراء آل سعود الذين رأوْا فيه وبالتويجري دخلاء على الأسرة المالكة. غرَف الحريري من الهبات والعطايا الملكية بغير حساب وموّل تياره بكافة مؤسساته السياسية والإعلامية والإجتماعية. لم يخطر ببال الحريري يوما أن تبلغ علاقاته بالمملكة هذا الدرك وهذا السوء.

في حياة عبدالله كان يرقب منحى المُلْك ، وخليفة الملِك المرتقب. حاول الملك عبدالله ترتيب انتقال المُلك الى ابنه متعب، ولكنه وجد صعوبة في تخطي أخويه نايف وسلمان بعد وفاة ولي عهده سلطان، وفي الأشهر الأخيرة من حياته رفض الملك طلب وإلحاح ابنه متعب لعزل عمه سلمان عن ولاية العهد وإحلاله مكانه. كان الملك عبدالله يعي قوة ​محمد بن نايف​ وجناح أخيه سلمان ويعلم أن الإقدام على خطوة كهذه كان سيطيح بالمملكة ويدخلها في دوامة من الصراعات الداخلية وربما التقسيم. فآثر اللجوء الى لعبة القدر وعيّن أخاه مقرن في منصب ولي ولي العهد منتظرا موت سلمان، فيصبح مقرن ولياً للعهد ومتعب ابنه ولي ولي العهد، ثم يتنحى عبدالله عن عرش المملكة فيصبح مقرن الملك، ومتعب ولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة في حياة عبدلله الذي كان سيحتفظ بلقب الملك الوالد . لكن ملك الموت كان سباقاً الى عبدالله الذي بموته أعلن وجهة انتقال الحكم من الجيل الأول الى الجيل الثاني الذي تحدد بالمحمّدين، إبنَي نايف وسلمان.

لم يتوقع الحريري هذا السوء والإجحاف السعودي بحقه بالرغم من مضايقات محمد بن نايف له من خلال حجب التلزيمات عن «سعودي أوجيه» وتعطيل دفع مستحقاتها من وزارة الدفاع حتى في زمن الملك عبدالله، ولم يتوقع يوماً أن تنتهي به الحال جامعاً مشتركاً بين المحمدين المتصارعين على الحكم والمتناوبين على نهشه وتحطيمه مالياً وسياسياً. فالرجلان يشتركان في مأساة الحريري المالية والسياسية، فابن سلمان يعتبر وصوله للعرش يمر بالإقتصاد أولا، وعينه على «سعودي أوجيه» كبرى الشركات السعودية، بعد أن وضع يده على شركة بن لادن، وهو لا يكترث لموقع سعد الحريري السياسي في لبنان. وابن نايف لا يرى الحريري إلا ويستحضر تشبيهه له «بالسفاح»«كماهر الأسد».

استشعر الحريري حجم المؤامرة أواخر الربيع الحالي حالما انتهت انتخابات طرابلس البلدية وأفضت الى فوز أشرف ريفي. وعلم أن أمراً دُبّر في ليل بين الرياض وأبو ظبي، وبين المحمّدين ولكن هذه المرة بين بن نايف وبن زايد.

أشرف ريفي اللواء المنشق عن سعد الحريري يحظى بدعم مالي كبير، زهاء 50 مليون دولار من أبو ظبي بإيعاز من «رياض» بن نايف. وبهاء الحريري شقيقه الأكبر ينتظره عند أول عثرة وينتظر سقوطه المدوي، وكما قالها في السر «سعد انتهى» قبل أن يقولها أشرف ريفي في العلن.

تراكمت المشاكل السياسية والصعوبات المالية ولم يجد الحريري جدّية في التعاطي السعودي معه، بل لامبالاة واستهتاراً غير مسبوق لم يعهده الحريري من قبل مع المملكة. أراد الحريري أن يظهر للمملكة بأن مجاذيفه لم تزل تعمل بالرغم من بعض الثقوب بأشرعته، فوجّه أولى الرسائل عبر إيقاف برنامج نديم قطيش (DNA) وهو من «رعايا» بلاط بن نايف، في إشارة واضحة لتحديد اصطفافه الى جانب بن سلمان... لكن لا حياة لمن تنادي، لم يسعفه ذلك لدى الأمير المنشغل بترميم صورته في الغرب والمنهمك بشراء الأسهم في «أوبر» و«غوغل» و«فيسبوك» وغيرها من الشركات العالمية.

توجه الحريري تركياً، إلى صديقه وصديق والده «الوفي» رجب طيب أردوغان طالبا النجدة السياسية من زعيم الإخوان المسلمين والذي يحظى بعلاقات جيدة مع جناح الملك سلمان رغم أنه على طرف نقيض من محمد بن نايف عدو الإخوان ومعذبهم.

وجّهت قطر، بعد أن ثبّت أميرها تميم دعائم حكمه، أولى إشاراتها السياسية لسعد الحريري عن استعدادات لتشكيل حاضنة اقتصادية ومالية تنقذ الحريري من أزماته على أن تقوم تركيا بالمواكبة السياسية وتأمين مظلة أمان واسعة تحفظ الحريري من بطش المحمّدين. تحرك الحريري دولياً متنقلاً بين أنقرة والدوحة وباريس من غير أن يغفل احتمال التسوية السعودية لأوضاعه المالية والسياسية. وصلت أخبار الشيخ مجالس الأمراء في جدة والرياض وهُمِس في أذانهم بأن ابن رفيق في طور خروجه عن الطاعة، فتشددت الرياض أكثر في أزمة «سعودي أوجيه» وصعّدت مواقفها بوجه «حليفها» فخرج أشرف ريفي ليقول: سعد الحريري انتهى.

لم يجد الحريري بدّا من مواجهة من يريد خنقه مالياً وسياسياً، فالأفق السياسي مغلق ولا يمكن خرقه إلا لبنانياً من خلال تأييد العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية. همَّ الحريري بتعداد من بقي في معسكره السياسي فوجد أن كتلته لم تَزَل متراصة وتدين له بالولاء، وان ظاهرة فؤاد السنيورة الصوتية يمكن إخمادها بسهولة... تحدث نادر الحريري إلى الوزير جبران باسيل ونقل له استعداد ابن خاله لانتخاب عون رئيساً للجمهورية مشترطاً على باسيل أن يتولى «حزب الله» إقناع الرئيس بري قبل إعلان موقفه بشكل رسمي. حمل باسيل البشرى إلى عمه الجنرال، وأخذ العونيون يستعدون للإحتفال الكبير..

وضع الجنرال حليفيه، ​القوات اللبنانية​ وحزب الله، بأجواء التقدم الذي حصل على جبهة الرئاسة. سارع سمير جعجع الى إطلاق النار السياسي على حليف حليفه حزب الله متهما إياه بأنه يعطل الإنتخابات ولا يريد انتخاب عون رئيساً. رد حزب الله بدعوة الحريري وحثّه على انتخاب الجنرال عون مقدماً وعوداً بالمساعدة والمؤازرة بالرغم من عجزه عن تغيير رأي الرئيس بري المتمسك برفض عون للرئاسة.

فهل هو تمرّد حريريّ على السعودية؟ أم مناورة سياسية بامتياز يجيد الحريري اللعب بين تفاصيلها وتسريباتها ليقول لمن يعنيهم الأمر بأن الأمر في تيار «المستقبل» لم يزل له، وNنه لم يزل الزعيم السني الأقوى في لبنان القادر على تغيير المعادلة، عسى ولعل أن يحرك ركوداً، ليس في ملف الرئاسة اللبنانية، إنما في ملفه المنسي في أدراج آل سعود .