كنا قد تناولنا في الموضوع الأول من هذا المقال المرحلتين الأولى والثانية من الأزمة الكورية الشمالية أي في الفترة الممتدة ما بين العام 1993-2007، وأظهرنا أن الدور ​الصين​ي كان في المرحلة الأولى يقتصر على الحياد لانشغالها بالعمل على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية الداخلية، ووضعها مجموعة من الملاحظات على السياسة الخارجية الأميركية تجاهها، في حين أنها في المرحلة الثانية مارست دبلوماسية ناشطة أوصلت إلى المفاوضات السداسية ومنعت انفجار الأزمة أكثر من مرة، وبالرغم من ذلك لم تطو صفحة الأزمة الكورية التي لا زالت تتأرجح ما بين التصعيد والتهدئة تفاعلا مع الخطوات الكورية حينا والأميركية حينا آخر.

ففي حزيران من العام 2008 أقدمت ​كوريا الشمالية​ على خطوة شكلت إشارة هامة للدخول في مسار التهدئة حينما دمرت أحد أبراج التبريد المائي في مفاعل يونغبيون، لكن لم تصمد التهدئة أكثر من بضعة أشهر ففي كانون الأول من نفس العام عقدت جولة من جولات المفاوضات السداسية في بكين لتعلن كوريا الشمالية فيها رفضها السماح للمفتشيين الدوليين القيام بعمليات تفتيش بغياب الرقابة الكورية، لتنهار المفاوضات السداسية من جديد. وجاءت المفاجأة الكورية الشمالية بعد خمسة أشهر في أيار من العام 2009 حينما أجرت تجربتهاالنووية الثانية. أمام السلوك الكوري الشمالي الذي أصبح يشكل تهديداً متصاعداً لشبه الجزيرة الكورية، ووضع الجهود الديبلوماسية الصينية التي تمثلت في جولات المحادثات السداسية أمام حائط مسدود، ظهر الاعتراض الصيني على الخطوات الكورية من خلال موافقةالصين على قرارت مجلس الأمن التي شددت العقوبات على كوريا الشمالية وخاصة القرار 1874 الذي تم اتخاذه على خلفية التجربة النووية في العام 2009 وكذا القرار1887، فالصين كانت تسعى للموازنة ما بين تحقيق الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية وما بين إيقاف البرنامج النووي الكوري الشمالي، وفي خضم هذا المسعى جاءت التجربة النووية الثالثة لكورياالشماليةفي العام 2013 لتقلب الموازين وتجعل الصين تتبنى هدف إيقاف البرنامج النووي الكوري الشمالي كأولوية للوصول إلى الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية، وتوافق على القرار 2094 الذي صدر عقب هذه التجربة النووية.

وقد صرح المسؤولون الصينيون في أكثر من مناسبة عن هذه الأولوية وبدأ الضغط الصيني على كوريا الشمالية بالتصاعد، مما أدى إلى تضارب وتذبذب مواقف كوريا الشمالية بشكل متكرر، فعلى سبيل المثال أعلنت في العام 2014 عن استعدادها للعودة إلى المفاوضات السداسية، ثم تراجعت عن هذا الإعلان بفعل المناورات المشتركة الأميركية- الكورية الجنوبية، ما جعل الصين تجنح نحو التشدد في التعاطي مع كوريا الشمالية، وكان من الملفت تصريح الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال زيارته للولايات المتحدة في أيلول من العام 2015 حيث دعا كوريا الشمالية إلى التخلي عن برنامجها النووي بشكل قابل للتأكد منه وغير قابل للرجوع عنه، وطالبها بتطبيق كافة قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وهذا الموقف يعتبر موقفاً متطابقاً مع ما تعلنه ​الولايات المتحدة​ بخصوص البرنامج النووي الكوري الشمالي.

واستكمالا للمسار التصعيدي أعلنت كوريا الشمالية في كانون الأول من العام 2015 ضم القنبلة الهيدروجينية إلى ترساناتها من الاسلحة المحظورة دوليا تحت عنوان حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، واستتبعت هذا الإعلان بتجربة نووية رابعة في كانون الثاني من العام 2016، وعززت خطواتها النووية بتجربة خامسة في أيلول من العام 2016، ما دفع الصين لزيادة ضغوطها الديبلوماسية على كوريا الشمالية والإعلان عن أن الصين لن تسمح بأن تتحول شبه الجزيرة الكورية إلى منطقة تنافس نووي بغض النظر سواء تم تطوير هذا السلاح داخليا أو تم استيراده ونشره في المنطقة، ووافقت على القرار 2270 وهو الأشد إدانة للتجارب النووية الكورية الشمالية والقرار 2321 الذي تضمن توسيعاً للعقوبات وتشديداً لها.

وبالرغم من الجهود الديبلوماسية الصينية الاستثنائية سابقة الذكر، وبالرغم من التناغم في الهدف والموقف الصيني مع التوجه الأميركي الداعي للضغط وإيقاف البرنامج النووي الكوري الشمالي وتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، يخرج الرئيس المنتخب دونالد ترامب وينتقد الصين ويقول: إن الصين تأخذ الأموال الضخمة والثروة من الولايات المتحدة، لكنها لا تفعل شيئا حيال كوريا الشمالية.

الشق الأول من تصريح الرئيس المنتخب دونالد ترامب يوهم بإن الصين تتلقى مساعدات من الولايات المتحدة بملايين الدولارات!!! في حين أن الواقع هو أن هذه الثروة التي يتحدث عنها إنما تحققها الصين بنتيجة التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، وبالتالي هي تتقاضى ثمرة الكفاءة الاقتصادية والقدرة التنافسية الصينية بالمقارنة مع الاقتصاد الأميركي، والمبادلات التجارية بين الصين والولايات المتحدة لم تجر تحت التهديد إنما أجرتها الولايات المتحدة بمحض إرادتاها وبحثا عما يناسب حاجاتها ومتطلباتها الاقتصادية، مع العلم أن نسبة الفائض التجاري الصيني مع الولايات المتحدة خلال العام 2016 تراجعت بما نسبته 9.1 % عما كانت عليه في العام 2015 وأنخفضت إلى ما قيمته 486 مليار دولار.

وبالانتقال إلى الشق الثاني من تصريح الرئيس المنتخب دونالد ترامب واتهامه الصين بأنها لا تفعل شيئاً حيال كوريا الشمالية، تثبت التجربة العملية على امتداد الأزمة الكورية الشمالية التي عالجناها فيما سبق بطلانه، فالصين لطالما كانت الطرف الذي يوفر المخرج للولايات المتحدة عند كل منعطف تصل فيه الأزمة إلى عنق الزجاجة.

لكن بالمقابل النظر إلى الخطوات الأميركية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ يسهم بتوضيح التريث الصيني بالتعاطي مع الملف الكوري الشمالي من جهة، وبالتعاطي مع الولايات المتحدة من جهة ثانية.

فالصين حينما عبرت عن رفضها إلى تحول شبه الجزيرة الكورية إلى منطقة تنافس نووي قالت: "سواء تم تطوير هذا السلاح داخليا أو تم استيراده ونشره في المنطقة" وهذا التعبير يحمل في طياته غمزاً باتجاه الولايات المتحدة التي تعمل على إدخال مجموعة من منظومات التسليح إلى المنطقة تحت عناوين مختلفة،فالرئيس أوباما زار فيتنام في أيار الماضي وأعلن رفع حظر بيع السلاح الأميركي لها، وعبرت الولايات المتحدة وفيتنام عن قلقهما المشترك من الحراك الصيني في المنطقة، كما أرسلت الولايات المتحدة حاملتي طائرات وسفنًا مرافقة لهما لتتمركز في بحر الفلبين في حزيران الماضي، مع العلم أن الصين تتنازع مع فيتنام والفيليبين حول ما تعتبره سيادتها على جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي، وفي نفس السياق جاء في أواخر العام 2016 الإعلان الأميركي- الكوري الجنوبي بأنه سيتم نشر منظومة (THAAD) المضادة للصواريخ البالستية القصيرة والمتوسطة المدى في ​كوريا الجنوبية​، تحت ذريعة مواجهة التهديد الكوري الشمالي.

وتعليقا على هذا التوجه "اعربت وزارة الخارجية الصينية عن إدانة بلادها الشديدة للتجربة النووية الكورية الشمالية، داعية إلى ضبط النفس بعد هذه التجربة، معتبرة أنه لا يخدم أحداً أن تشهد شبه الجزيرة الكورية حالة من الفوضى أو الحرب بعد هذه التجربة، مشيرة إلى أن قرار كوريا الجنوبية نشر منظومة أميركية مضادة للصواريخ يضر بالتوازن الإستراتيجي الإقليمي". ولا سيما استراتيجية ردع التدخل المضاد التي تعتمدها الصين لمنع تدخل الولايات المتحدة في أي نزاع قد ينشب مع ​تايوان​ بسبب سعيها للانفصال عن الصين، ناهيك عن تقويض القدرات الصينية على حماية ما تعتبره مياهها الإقليمية خاصة في جوار مناطق التنازع في بحر الصين الجنوبي والشرقي.

ختاماً، إن الخطوات الأميركية سابقة الذكر معطوفة على حوادث الاعتراض المتكررة التي تقع بين جيش التحرير الشعبي الصيني والقوات الأميركية، وتعاطي الرئيس المنتخب دونالد ترامب مع القضية التايوانية بطريقة استفزازية بالنسبة للصين، دفع الأخيرة إلى التريث بالتعاطي مع الخطوات والمطالب الأميركية بشأن الأزمة الكورية الشمالية، التي قد تكون مدخلاً إلى أزمات أخرى تطال صميم أمنها القومي.