إن النظر إلى بؤر التوتر والتنافس على الساحة الدولية يستحضر في الذهن صورة رقعة الشطرنج، فالهجوم لا يشترط التقدم المباشر نحو المستهدف، بل من الممكن مهاجمته من مواقع مجاورة أو جانبية، والمدافع بدوره قد يعطل الهجوم من خلال تحريك بيدق أو ما يشبهه ووضعه في مسار المهاجم لإرباكه وكشف مساره، وأحياناً قد يكون من أقوى وسائل الدفاع الهجوم المضاد. واستطلاع خطط الهجوم وخطوات الدفاع يقتضي معاينة سير المعارك المتعددة لفهم مشهد الحرب المركبة ما بين الأطراف المعنية.

فالمشهد الذي نعيشه على الساحة الدولية مشهد معقد تتداخل فيه الحروب والمفاوضات والثورات الحقيقية والمصطنعة، ومن أبلغ الأزمات التي تعبر عن هذا التعقيد الأزمة السورية التي تتوالى فصولها منذ سنوات، وتشهد اليوم محطة مميزة سميت مؤتمر الآستانة، ومن البديهي عند الحديث عن مؤتمر الآستانة الحديث عمن يقف خلفه ويدعمه، وعن الأطراف المشاركة فيه، وفي أي خانة يصب عقده من حيث الأصل* وعما هو متوقع منه*.

مؤتمر الآستانة ​روسيا​ هي القوة الكبرى الراعية والداعية له ومن يقف خلفه، وهو يشكل تتويجاً سياسياً للتدخل العسكري الروسي في أحد أبرز الأزمات التي تعصف في الشرق الأوسط، وهذا التدخل شكل تحولاً تاريخياً في السياسة الروسية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، فما الذي يدفع روسيا للدخول في هذا المعترك؟

في الحسابات الاستراتيجية جاء التدخل الروسي في الأزمة السورية عقب التدخل الأميركي الذي كان يسعى لإسقاط النظام السوري وعلى رأسه الرئيس السوري بشار الأسد، ومن المعلوم أن لروسيا مجموعة من الأهداف الاستراتيجية في سوريا ليس أقلها توفير موطئ قدم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وفي قلب الشرق الأوسط، الذي كان ولفترة طويلة من الزمن مسرحاً لتمدد نفوذ الولايات المتحدة بلا أي منازع.

وفي نفس السياق جاء التدخل الروسي في الشرق الأوسط عقب سلسلة من الثورات أو الانقلابات المنظمة بحسب الرؤية الروسية، حصلت بشكل متفاعل متلاحق في الجوار القريب لروسيا، بدءً من جورجيا في العام 2003 حيث تمت الإطاحة بالرئيس إدوار شيفرنادزه الموالي أو القريب من روسيا والذي كان وزيرا للخارجية زمن الاتحاد السوفياتي السابق، وأوصلت ميخائيل ساكشفيلي إلى سدة الرئاسة في جورجيا وهو قريب من الولايات لمتحدة وأصبح فيما بعد أحد أبرز حلفائها في منطقة جنوب بحر قزوين، مرورا بما حصل في أوكرانيا في العام 2004 والذي سمي بالثورة البرتقالية حينها وأدت للإطاحة بالرئيس فيكتور يانكوفيتش القريب من روسيا وأوصلت فيكتور يوشينكو الذي أعتبرته روسيا ممثلاً للولايات المتحدة في أوكرانيا، وصولاً إلى أحداث قيرغيزستان في العام 2005 التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس عسكر اكاييف الموالي لروسيا، وأوصلت كرمان باكاييف الموالي للولايات المتحدة، وبالمحصلة أعتبرت روسيا أن الولايات المتحدة كانت خلف ما سمي بالثورات الملونة في الجوار الروسي بغية العمل على قلب الأنظمة الموالية لروسيا وجلب أنظمة موالية لها بديلا عنها، وهو ما تعتبره روسيا تهديدا استراتيجيا لها بحسب مختلف وثائق الأمن القومي الصادرة عنها.

وبناء على ما تقدم عملت روسيا للرد على هذه المتغيرات في جوارها فتفجرت المواجهة الروسية الجورجية في العام 2008 ونجم عنها انفصال كل من ابخازيا واوسيتيا الجنوبية عن جورجيا واعتراف روسيا بهما كأقاليم مستقلة، وردت على ما اعتبرته الانقلاب في قيرغزستان الذي حصل في العام 2005 بإنقلاب مضاد في العام 2010، أما ما حصل في أوكرانيا فكان الرد عليه تصاعديا بأزمات متكررة بين روسيا وأوكرانيا كانت ذروتها في العام 2014 حينما سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم التي كانت تحت الإدارة الأوكرانية، وضمتها لاحقا إلى الأراضي الروسية.

وما إن انتهت روسيا من الرد في جوارها القريب إنتقلت في أواخر العام 2015 إلى مسرح الشرق الأوسط لتدخل بقوة في الأزمة السورية، الدخول الروسي فسره العديد من المحللين بأنه دخول مقابل للتدخل الأميركي، لكن بعيدا عن التنافس في الإعلام والتصريحات السياسية أدى التدخل العسكري الروسي الذي اعتمد على سلاح الجو والصواريخ الموجهة عن بعد، بالتناغم والتنسيق مع القوات البرية السورية وحلفائها إلى تغير في الواقع الميداني أولاً والسياسي ثانياً، وهو ما لم تستطع الولايات المتحدة تحقيقه لعدة أسباب أبرزها غياب القوات البرية القادرة على تنفيذ أجندتها من جهة، وبفعل تراجع التأثير السياسي لها ولحلفائها تجاه النظام السوري من جهة ثانية.

وبالنظر إلى الأطراف الأساسية المشاركة في مؤتمر الآستانة نجد أن روسيا استطاعت أن تجلب إلى جانبها تركيا، بالرغم من مرور العلاقات الروسية التركية بالعديد من العثرات بسبب الأزمة السورية، ومن أشهرها حادثة إسقاط تركيا لمقاتلة روسية بذريعة دخولها المجال الجوي التركي، هذه الحادثة تركت ارتدادات قوية على العلاقات التركية-الروسية حيث صرح الرئيس بوتين حينها بأن الحادثة سوف تترك عواقب وخيمة على العلاقات الروسية-التركية، وتبعه وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي اعتبر أن الحادثة كمينا محضراً مسبقا، وانه سيتم إعادة النظر بالعلاقات مع السلطات التركية، وتم تجميد مشروع الشلال التركي للتعاون ما بين روسيا وتركيا في مجال الطاقة، لكن حصلت مجموعة من التطورات جعلت تركيا تعيد النظر بموقفها من الأزمة السورية وبالصيغة التي تتعاطى فيها مع روسيا، فقد ضربت تركيا سلسلة من التفجيرات والهجمات كان يقف خلف معظمها الجماعات المتطرفة العاملة على الأراضي السورية، ما دفعها لإدراك أهمية ردع هذه الجماعات وكف خطرها بمختلف الوسائل المتاحة، والتعاون مع روسيا في هذا المجال هو من ضمن الخيارات، أضف إلى ما تقدم فإن المحاولة الانقلابية التي لم تكتمل في تركيا، واتهام السلطات التركية لجماعة عبد الله غولن المعارضة والذي يعيش مؤسسها في الولايات المتحدة حاليا، ورفض الولايات المتحدة طلب السلطات التركية تسليمها إياه، وبالمقابل مساندة روسيا للسلطات التركية في مواجهة هذه المحاولة الانقلابية، جعل تركيا تعمل على إعادة التموضع في هذا العنوان وهذا لا يعني بالضرورة القطيعة أو تراجع العلاقات التركية-الأميركية.

في سياق متصل نجد إلى جانب روسيا في مؤتمر الآستانة ​ايران​، وايران حرصت منذ بداية الأزمة السورية على الحفاظ على النظام السوري نظرا للعلاقات الاستراتيجية التي تربط بين البلدين، ناهيك عن أن سوريا تشكل رأس جسر استراتيجي يربط ما بين إيران وحلفائها في الشرق الأوسط، لكن الغريب هو وجود تركيا وايران الطرفين المتنافسين في الشرق الأوسط في محور واحد مع روسيا، وهو ما يسجل لروسيا بأنها استطاعت جمع القوى الفاعلة على الأرض السورية وجمعت إلى جانبهم النظام والفصائل المسلحة التي تقاتله.

بناء على ما تقدم يتضح جواب السؤال المحوري عن الغاية من عقد المؤتمر من حيث الأصل؟ والجواب يبدأ من دلالة موقع عقد المؤتمر، فروسيا اختارت كازاخستان وهي أحد أهم دول آسيا الوسطى اليوم وأحد دول الاتحاد السوفياتي السابق وهي جزء مما تعبره روسيا جوارها القريب، وعقد المؤتمر في هذه الرقعة الجغرافية التي تعتبر جزء مما اسماه زبيغنو بريجنسكي "المتغير الجيوبوليتيكي" الذي يتيح لمن يسيطر عليه التربع على رأس النظام الدولي، يحمل في طياته رسالة روسية واضحة بأن روسيا تسعى للعودة إلى الموقع المتميز الذي احتله الاتحاد السوفياتي السابق في السياسة الدولية، وللقول أيضا إلى دول الاتحاد السوفياتي السابق بأنها قادرة على تفعيل دورهم في السياسة الدولية بعكس الولايات المتحدة التي سبق ووعدتهم بذلك ولم تحققه، وللقول للولايات المتحدة بأن روسيا ردت على التحديات التي افتعلتها أميركا في جوارها القريب.

فضلاً عن أن مؤتمر الآستانة يزود روسيا بثقل استراتيجي، فقد وجهت عبره رسالة واضحة للولايات المتحدة بأنها هي المرجع للعمل من أجل حل الأزمة السورية، وإمساك روسيا بالملف السوري وبأوراق التفاوض حول معالجته، قد يتيح لها مساحة أوسع للتفاوض في القضية الأوكرانية مثلا، ناهيك عن أن العناوين العالقة ما بين روسيا والولايات المتحدة تتسع أبعد من القضية الأوكرانية وتطال قضايا كتوسع حلف شمال الأطلسي، والحشد العسكري الأميركي ونشر منظومات التسليح في بعض دول أوروبا الشرقية كبولندا مثلا وهو ما تعتبره روسيا تهديداً للأمن القومي الروسي، وقد ردت روسيا بنشر منظومات تسليح مضادة في القرم وكليننغراد، وبالمحصلة فإن أي مسرح يوفر لروسيا فرصة للقبض على أوراق قوة تسمح بتعزيز موقعها بالتفاوض حول القضايا العالقة وتزخيم حركتها على الساحة الدولية سوف تقدم عليه وبقوة، ومؤتمر الآستانة دليل على هذا المسار.

وفي الختام فما هي النتائج العملية وما هو المتوقع من مؤتمر الآستانة؟ النتيجة العملية الأولى هي أن روسيا كرست نفسها المفاوض الأبرز في هذا الملف، النتيجة الثانية هي جمع القوى المؤثرة سياسيا وميدانيا في الملف السوري وعزل الجماعات المتطرفة تمهيدا للعمل على اضعافها واستهدافها سياسياً وميدانياً بشكل مكثف، النتيجة الثالثة هي أن مؤتمر الآستانة يعتبر كبطاقة دعوة روسية للولايات المتحدة للحوار حول القضايا العالقة، أما بخصوص ما هو المتوقع من مؤتمر الآستانة فتختلف التوقعات بإختلاف المقاربات، فالمتضررون قد يعمدون إلى تضخيم المرجو من عقد المؤتمر للقول بإنه فشل، أما المؤيدون فقد يعتبروه منعطفاً تاريخياً يعبر عن عجز المؤامرة الدولية عن تحقيق أهدافها، وأظن من الموضوعية القول إن المتوقع من المؤتمر هو فتح باب التفاوض السياسي بين القوى الكبرى للوصول إلى تفاهمات الحد الأدنى، ليعطوا بدورهم الضوء الأخضر للقوى الإقليمية للوصول إلى تفاهمات الحد الأدنى، مما تضطر معه الجماعات المسلحة للسعي لتوفير مخرج سياسي لها وإما القضاء عليها. ومن المعلوم أن نتائج المؤتمرات التي من هذا النوع لا تقتصر على ما يصدر في البيان الختامي، ويختلف المتوقع منها بحسب إختلاف المشهد السياسي على الساحة الدولية والإقليمية، واختلاف الواقع الميداني في الفترات التي تليها.