على وقع المشاورات التي رافقت التحضير لمؤتمر الآستانة، الذي جمع وفدين من الحكومة السورية وفصائل المعارضة المسلحة، وقع خلاف كبير بين الفصائل العاملة في الشمال حول قرار المشاركة، لا سيما بعد أن أجبرت الحكومة التركيّة بعضها على هذا الخيار، في حين أن البعض الآخر فضل البقاء بعيداً عن طاولة المفاوضات، نظراً إلى أنها تنطلق من إتفاق لوقف إطلاق النار يستثني جبهة "فتح الشام"، على أساس تصنيفهما منظمة إرهابية إلى جانب تنظيم "داعش"، الأمر الذي تم التأكيد عليه من جانب أنقرة عبر مصدر في وزارة خارجيتها في الأيام الماضية.

في ذلك الوقت، فضلت حركة "أحرار الشام" عدم الذهاب من دون تخوين الفصائل المشاركة، في حين وضعت الأخيرة العديد من الشروط مقابل البحث في ملف "فتح الشام"، لكن الجبهة لم تنتظر صدور نتائج المؤتمر حيث أطلقت حملة عسكرية ضد الفصائل المشاركة، الأمر الذي أدى إلى موجة واسعة من ردود الفعل، لا سيما من جانب "أحرار الشام" التي نجحت بالحصول على بيعات من قبل أغلب الفصائل المستهدفة.

من جانبها، سارعت الجبهة إلى الإنقلاب على هذا الخيار، معتبرة أن الحلّ الصحيح هو توحيد قرار الحرب والسلم، بالإضافة إلى وضع كل المقدّرات الماديّة والبشريّة تحت قيادة سياسيّة وعسكريّة موحدة، الأمر الذي ترجمته، بعد رفض "أحرار الشام"، عبر الإعلان عن تشكيل هيئة "تحرير الشام" ما أعاد الأمور إلى نقطة الصفر.

على هذا الصعيد، نجحت "فتح الشام" بالإستفادة من نقاط ضعف "أحرار الشام"، التي كانت قد شهدت إنقسامات واسعة نتيجة الخلافات بين أعضاء مجلس الشورى فيها لدى إنتخاب أميرها الجديد، فعمدت إلى وضع أبرز معارضي القيادة الجديدة أبو جابر الشيخ على رأس المولود الجديد، في خطوة كفيلة في سحب مجموعات واسعة من الحركة، لا سيّما تلك التي تدور في فلك تنيظم "القاعدة"، والتي كانت متحمّسة إلى الإندماج مع "فتح الشام".

في هذا السياق، يمكن القول أن هناك العديد من الأسباب التي تقف وراء مواقف الفصائل المختلفة، لكن جميعها يدور حول نقطة واحدة هي المفاوضات السياسية، في ظل الموقف التركي المستجدّ وتسلم الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب زمام السلطة، فـ"فتح الشام" تخشى عزلها ووضعها في دائرة الإستهداف، بعد أن كانت طائرات التحالف الدولي بقيادة واشنطن قد كثّفت من ضرباتها الجوية ضد مراكزها وقياداتها، في حين أن "أحرار الشام"، بالإضافة إلى الفصائل المتحالفة معها، ترفض الإندماج كي لا تخسر فرصة الجلوس على طاولة المفاوضات، أو على الأقل لا تريد الذهاب إلى هذا الخيار من موقع الضعف.

أمام هذا الواقع، هناك عامل أساسي لا يمكن تجاهله لفهم حقيقة ما يجري في الوقت الراهن، هو أن كل هذه الجماعات كانت تحظى بالدعم والرعاية من جانب الحكومة التركيّة، وبالتالي لا يمكن أن تكون أنقرة بعيدة عن المسار الذي ستسلكه الأحداث في المرحلة المقبلة، نظراً إلى أن التداعيات ستكون كبيرة، في حين أن الساحة باتت منقسمة بين مجموعتين: الأولى تحت اسم "​هيئة تحرير الشام​"، أما الثانية تقودها "أحرار الشام"، مع وجود 3 سيناريوهات محتملة:

1-إختيار "أحرار الشام" المواجهة، في حال تعرضها لأي إعتداء من قبل المولود الجديد، ما يعني توسّع رقعة الإشتباكات التي حصلت في الفترة السابقة على نحو غير مسبوق، وهي كانت قد هدّدت بهذا الأمر.

2-إنضمام "أحرار الشام" إلى هيئة "تحرير الشام"، ما يعني تحقيق هدف "فتح الشام" التي كانت تسعى إلى إندماج شامل بين الفصائل، تمهيداً لإعلان "إمارة" أو كيان جديد في الشمال السوري.

3-بقاء الوضع على ما هو عليه، لناحية الإنقسام بين الفصائل، لكن مع التزام بوقف لإطلاق النار، كان قد دعا إليه أبو جابر الشيخ بعد تسلمه مهامه الجديدة، إلا أن هذا الخيار يعني تأجيل الأزمة الحالية لا أكثر ولا أقل.

إنطلاقاً من ذلك، يمكن التأكيد بأن أي سيناريو ستسلكه الأحداث سيدل على حقيقة الموقف التركي أولاً وأخيراً، ففي حال إنضمام "أحرار الشام" إلى المولود الجديد ستكون أنقرة هي المستفيدة من القوة التي لا تزال تملكها "فتح الشام"، أي الإنقلاب على مؤتمر الآستانة، في حين أن المواجهة تعني أن الحكومة التركية ماضية في سياساتها الجديدة على وقع التحولات التي تشهدها الساحتين الإقليمية والعالمية.

في المحصّلة، الصراع "الجهادي" في الشمال السوري ليس مجرّد خلاف في المصالح والتوجّهات بين الفصائل المعارضة، بل مؤشر لتوجه الأزمة بشكل عام سواء كان ذلك نحو التسوية أو التصعيد.