منذ الإعلان عن تشكيل جبهة "فتح الشام"(1)، بزعامة أبو محمد الجولاني، كان الهدف الواضح الإبتعاد عن دائرة الإستهداف، طالما أن التنظيم السابق، أي جبهة "النصرة"، كان يصنف إرهابياً بسبب إرتباطه بتنظيم "القاعدة"، وهذا الأمر كان متوافق عليه من قبل أغلب الجهات الإقليمية والدولية الفاعلة على الساحة السورية.
بعد أشهر طويلة، تبيّن أن هذه الخطوة لم تنجح في تحقيق الهدف المرجو منها، بالرغم من أن ولادة "فتح الشام" جاءت بالتزامن مع الإعلان عن فك الإرتباط مع "القاعدة"، حيث وصلت الأمور إلى حد المساومة على ورقة الجبهة، من قبل فصائل المعارضة المسلحة، في مشاورات مؤتمر الآستانة، بالرغم من إشتراط تلك الفصائل أن يتم البحث في وضع "فتح الشام" بالتزامن مع المطالبة بانسحاب الفصائل الأجنية التي تدعم الحكومة السورية.
ما تقدم، يندرج في سياق السعي إلى تغيير "اليافطة" بهدف البقاء ضمن لائحة القوى التي من الممكن الإستفادة منها لتحقيق أهداف سياسية، و"النصرة" باتت تمتلك خبرة واسعة في هذا المجال، نظراً إلى أن الجولاني سبق له أن تخلى عن التحالف مع تنظيم "داعش"(2)قبل أن يتخلى عن "القاعدة"، مع العلم أنه خلال الخلاف مع أمير "داعش" أبو بكر البغدادي لجأ إلى الإحتماء بعباءة زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري.
بالعودة إلى "تحرير الشام"، هذه الجبهة ولدت مباشرة بعد إنتهاء الجولة الأولى من مفاوضات الآستانة، بعد أن شعرت "فتح الشام" بالخطر الناجم عن إستعداد فصائل المعارضة للتخلي عنها، بسبب الضغوط التي فرضت عليها من جانب الحكومة التركية، حيث سارعت إلى إطلاق حملة عسكريّة واسعة ضد هذه الفصائل، للقضاء عليها قبل أن تتحول إلى "صحوات" تتولى محاربتها تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، وعمدت في خطوة "ذكية" إلى إختيار أحد قادة حركة "أحرار الشام" السابقين أبو جابر الشيخ ليتولى قيادة التنظيم الجديد، بهدف إبعاد الأسماء المحسوبة على "فتح الشام" أو "النصرة" عن الواجهة من جهة، وسحب بعض الفصائل المنضوية في صفوف الحركة إلى "فتح الشام" من جهة ثانية، نظراً إلى تأثرها بالشيخ الذي كان في السابق أميراً لها.
أول من أمس، وجه أمير "تحرير الشام" رسالته الأولى بعد تسلمه مهامه، بالرغم من أن الجميع يعلم أن القيادة الفعلية لا تزال في يد الجولاني نفسه، التي تضمنت، بطريقة غير مباشرة، الأهداف التي كانت تريدها "فتح الشام" من ولادته على أنقاض "النصرة"، عبر التأكيد بأن الهيئة "كيان مستقر لا يمثل امتداداً لتنظيمات وفصائل سابقة، بل هي خطوة اندماج ذابت فيها جميع الفصائل والتسميات وانحلت"، فالشيخ يريد أن يقول أن المنظمة التي كانت تصنف إرهابية لم تعد موجودة على أرض الواقع، وبالتالي التعامل يجب أن يكون مع الكيان الجديد، لكن أين ذهب الإرهابيون السابقون؟ وهل يكفي تغيير "اليافطة" للقول أن هناك جماعة إرهابية باتت من الماضي؟
في المقابل، أعلن الشيخ أن الهيئة ستعيد تنشيط العمل العسكري ضد مواقع الجيش السوري، ما يعني إسقاط اتفاق وقف إطلاق النار الذي تمّ التوصل إليه بناء على تفاهم روسي-تركي-إيراني، عبر التأكيد أن "صفحة الشام لن تطوى بجلسة مفاوضات أو مؤتمرات تجهض الثورة وتتوج السفّاح"، الأمر الذي سيفتح الباب أمام جولة واسعة من التساؤلات في ظل التحوّلات القائمة على الصعيدين الإقليمي والدولي، خصوصاً بالنسبة إلى الجهات التي تدعم قوى المعارضة المسلّحة، فهل ستوافق على التعامل مع الكيان الجديد، لا سيما إذا ما أعلنت المزيد من الفصائل الإلتحاق بالمنظّمة الجديدة، أم أنها ستذهب إلى تصنيف "تحرير الشام" منظمة إرهابية أيضاً؟
على هذا الصعيد، تبرز بعض المخاوف من أن يكون هناك خطة محكمة وراء ما يحصل، تقوم على أساس وجود خطّين من المعارضة المسلّحة: الأول يقبل بخيار التفاوض مع الحكومة السوريّة، في حين يكون الثاني أداة عسكرية لبذل المزيد من الضغوط، في ظل السباق القائم بين كافة الأفرقاء على المناطق التي يسيطر عليها "داعش".
في المحصلة، لا يختلف الهدف من إعلان "تحرير الشام" عن ذلك الذي فرض ولادة "فتح الشام"، لكن السؤال يبقى حول كيفيّة التعامل مع المولود الجديد، كي لا يكون التسامح مع الإرهاب مبرراً بمجرد تغيير الاسم.
(1) في شهر تموز من العام 2016، أعلن أبو محمد الجولاني زعيم "جبهة النصرة" رسمياً فك الارتباط بتنظيم "القاعدة"، وتغيير اسم "النصرة" إلى "جبهة فتح الشام".
(2) في شهر تشرين الثاني من العام 2013، أوضح زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري أن "جبهة النصرة لأهل الشام" فرعاً مستقلاً لجماعة "قاعدة الجهاد" يتبع القيادة العامة، بعد رفض أبو محمد الجولاني إعلان أبو بكر البغدادي "الدولة الإسلامية في العراق والشام".
