عشيّة ذكرى اغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، كان رئيس "تيّار المستقبل" ​سعد الحريري​ يحضّر لخطابٍ بالمناسبة يثبت فيه "صوابية" التنازلات التي قام بها في السياسة، وعلى رأسها انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، مستنداً ضمن جملة ما يستند إليه أنّ "الجنرال" ما قبل الرئاسة غيره ما بعد الرئاسة.

في هذا التوقيت "الحسّاس" بالنسبة للحريري، قرّر رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أن "يكسر" صمتًا فسّره البعض على غير حقيقته، فاستبق زيارته لجمهورية مصر العربية بحسم موقفه من قضايا جوهرية وأساسيّة، على غرار "حزب الله" وسلاحه، والأزمة السورية ومسارها، لغير صالح الخطّ "المستقبليّ" بطبيعة الحال.

أحرِج الحريري وتعقّدت مهمّته، قد يكون ذلك صحيحًا، ولكن من كان ينتظر عمليًا من الرئيس عون غير ذلك؟ وما الذي يبرّر "الحملة" التي شنّها البعض على "فخامة الرئيس"، وأوحت كأنّه نفّذ "انقلابًا" في مكانٍ ما؟

خاب الرهان...

لم يكن "المستقبليّون" قد بلعوا مواقف رئيس الجمهورية من قانون الانتخاب، وإصراره على النسبية أولاً وأخيراً، وصولاً حتى تهويله بالفراغ في حال تخييره بين إجراء الانتخابات على أساس قانون الستين النافذ أو التمديد للمجلس النيابي الحالي، حتى باغتتهم مواقف أكثر "قساوة" من القضايا الاستراتيجية، التي وضعها "المستقبل" في قائمة أولوياته.

صمت "المستقبليون" على مضض، من بوابة "حاجتهم" إلى الحفاظ على العلاقة الودية مع رئيس الجمهورية ومن يمثّل، ومن تكلموا منهم، على قلتهم، حاولوا إظهار "تفهّم" لحق الرئيس بإبداء الرأي، محاولات باءت عمومًا بالفشل، في ضوء "الميل الواضح" لديهم لتبنّي "الانتقادات" التي تعرّض لها رئيس الجمهورية على مواقفه.

ببساطة، خاب رهان "المستقبليين"، ومعهم "​القوات اللبنانية​"، التي كرّر رئيسها سمير جعجع مرارًا وتكرارًا خلال الأسابيع الماضية أنّ عون بات أقرب إلى فريقه السياسي من "حزب الله"، وأنّ العلاقة بينه وبين الحزب تدهورت، بل إنّ الأخير لم يكن يريد انتخابه رئيسًا للجمهورية لأنّه اشتمّ رائحة "انقلاب" في الموقف لدى عون، ولذلك كان يفضّل "الفراغ" عليه.

ولعلّ ما زاد من "الخيبة المستقبلية" كان توظيفها من قبل "الخصوم" في ما يخدم مصالحهم السياسية، وفي مقدّم هؤلاء الوزير السابق ​أشرف ريفي​ الذي عرف كيف "يستغلّ" الوضع، عبر التصويب على رئيس الجمهورية، ومن خلفه، وهنا الأساس، من وقفوا إلى جانبه وساهموا في إيصاله إلى الرئاسة، لأنّ ما قاله عون يعبّر عن موقفه المعروف، وهو بالتالي ليس مفاجئًا، متسائلاً في المقابل عن موقف الحكومة اللبنانية من ذلك.

"حملة" على الرئيس؟!

قالها ريفي إذاً، مواقف الرئيس عون لم تكن مفاجئة، بل هي أصلاً أقرب إلى الثوابت بالنسبة إليه، وقد عبّر عنها مرارًا وتكرارًا طيلة السنوات العشر الماضية. على العكس من ذلك، فإنّ المفاجئ تمثّل بردّة الفعل عليها من قبل البعض، ممّن تخيّلوا ربما أنّ وصول الرجل إلى قصر بعبدا نقله من ضفّةٍ إلى أخرى بكلّ بساطة، فتخلى عن كلّ قناعاته وثوابته، أو أنه، في أحسن الأحوال، أصبح "رماديًا"، وهو الذي لطالما هاجم بدعة "الوسطية" التي لا طعم ولا لون لها.

من هنا، تبدو الانتقادات التي تعرّض لها الرئيس عون على خلفية مواقفه أشبه بـ"حملة" شنّها البعض على موقع الرئاسة، علمًا أنّ ما عبّر عنه الرجل لا يشكّل مخالفة للدستور كما ذهب بعض "الغيارى" إلى القول. صحيحٌ أنّه انسجم في مواقفه مع نفسه، ورفض الانقلاب على ذاته، والإيحاء بأنّه كان إلى جانب "حزب الله" عندما كان بحاجة إليه وتخلّى عنه متى انتفت هذه الحاجة، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّه انسجم أيضًا مع البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة، وأغلبها حكوماتٌ "حريريّة" بالمناسبة، فلم يشرّع ما لم تشرّعه هذه الحكومات، خصوصًا في ما يتعلق بسلاح المقاومة، الذي أقرّت الحكومات بضرورة الركون إليه لمواجهة الاحتلال، سواء بصيغة معادلة "الجيش والشعب والمقاومة" أو الصيغ البديلة التي حافظت على الجوهر والمضمون نفسه.

وإذا كان اتهام عون من قبل البعض بالإساءة إلى الجيش لا يستقيم، انطلاقاً من مواقف "الجنرال" التاريخية المعروفة من المؤسسة العسكرية وضرورة تحصينها والحفاظ عليها، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ الرجل انطلق فيها من "الواقعية السياسية" في مقاربة الأمور، وهي الواقعية نفسها التي انطلق منها مثلاً وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في دعوته الولايات المتحدة الأميركية إلى الإقرار بأنّ "حزب الله" يحارب الإرهاب في سوريا، متلاقيًا بذلك مع حكوماتٍ غربية باتت تتعاطى مع الحزب كجزءٍ من استراتيجية محاربة الإرهاب، نظراً لدوره الجوهري على صعيد مقاتلة التنظيمات الإرهابية والتكفيرية، سواء أقرّت بذلك في العلن أم لم تفعل.

من يعرف ميشال عون؟!

عندما دعم رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع العماد عون للرئاسة، كانا يراهنان على جعل الرجل أقرب إليهما من "حزب الله"، ويُقال الكثير عن اعتمادهما هذه النظرية بالتحديد لإقناع المملكة العربية السعودية مثلاً بالتصديق على خيارهما، الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى إبعاد "الحليفين" عن بعضهما البعض، وبالتالي "عزل" الحزب أكثر فأكثر.

وإذا كان الحريري وجعجع سيحرصان على الحدّ من تداعيات مواقف عون، لحرصهما على العلاقة الإيجابية معه في هذه المرحلة، فإنّ الأكيد أنّ رئيس الجمهورية لم ينقلب لا على ذاته ولا على الحريري وجعجع، وأثبت صحّة النظرية القائلة أنّ من يراهن على تغييرٍ في مواقفه لا يعرف ميشال عون جيّداً...