حتى الآن ماتزال صورة العلاقات الروسية - الأميركية في المستقبل ضبابية، ولو أن التفاؤل المسنود على كلام الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، بضرورة تحسين العلاقات، وكذلك توقّعات نظيره الروسي فلاديمير بوتين، باستئناف العلاقات بحجمها الكامل خلال ولاية ترامب، يُشعر المتلقي بأن المرحلة المقبلة من العلاقات المستقبلية بين الدولتين ستسير نحو "الترطيب".

عبّر ترامب عن نوايا ودّية تجاه روسيا وبوتين، وردّت موسكو تكراراً التحية بأفضل منها، على قاعدة "من يراك بعين، شوفو بالاثنتين"، إلا أن السياسات الدولية غير خاضعة للعواطف إنما للمصالح، فكيف بين قطبين في العالم تتناقض سياستهما إلى اقصى الحدود، لا بل هما في حال عداء تاريخي، ويحاول كل منهما جرّ الآخر إلى المكان الذي يعتقد أن يده مليئة فيه، ليوجّه له لكمة بطريقة ما؟

فالولايات المتحدة ليست محكومة لشخص، مهما علا كعبه، فهناك مصالح الشركات الكبرى التي ترشد السياسة الأميركية الاستعمارية حول العالم، وتلك الشركات تصنّف روسيا أول عدو لها في منع تحقيق غاياتها، وتليها الصين كأكبر اقتصاد عالمي، فضلاً عن تلك الدول التي لم تتمكن سياسات واشنطن من إخضاعها، سواء نسبياً أو كلياً، وعلى رأسها إيران في الشرق، وهذه الدول الثلاث لا يمكن أن يُشَك في أنهم في تحالف واحد.

لذلك، فإن الوعود التي أطلقها ترامب بالتقارب مع روسيا دونها عقبات موضوعية داخلية، مضافاً إليها تراجعه عن مسائل محورية كانت أحد ابرز مؤشرات الغزل لروسيا، وهي المتعلقة بحلف شمال الأطلسي، الذي لأجله عاد ترامب لتبنّي دعمه ونشاطه العدواني ضد روسيا، خصوصاً في الدول التي تُعتبر حدائق محيطة بروسيا، متل دول الاتحاد السوفياتي السابق في البلطيق، وامتداداً إلى أوروبا الشرقية.

هناك الكثير من المؤشرات الواقعية التي تفيد بأن التفاؤل حيال العلاقات المسقبلية بين روسيا والولايات المتحدة مبالغ فيه كثيراً، مع احتدام التوترات الناجمة عن السياسات الأميركية، والتي أنتجت إرهاباً من نوع غير مسبوق جرى تعميمه كالنار في الهشيم، وهو ما أكده ترامب من خلال إعلانه أن إدارة سلفه باراك أوباما كانت وراء إنتاج المنظمات الإرهابية، لاسيما "داعش".

إن المقياس الأول لدى روسيا، هو الجدية التي يمكن أن يتعاطى معها ترامب في ملفي الأطلسي والإرهاب كعاملي توتر وتدمير يلفّ العالم، والدرس الليبي الأطلسي مايزال في لبّ العقل الروسي كنموذج، والإرهاب مستمر في عمله.

من هنا يجب التوقف أمام "الحملة الشرسة" التي تشنّها الولايات المتحدة على إيران، وعلى ذلك أجوبة روسية قاطعة جاءت على لسان المديرة العامة لمعهد البحوث والمبادرات السياسية الخارجية فيرونيكا كراشينينيكوفا، التي عددت الأسباب الكامنة وراء تلك الحملة الشرسة:

1- إيران هي آخر دولة مستقلة من حيث المبدأ في الشرق الأوسط، ولم تستطع الولايات المتحدة إخضاعها على مدى أربعين عاماً.

2- إيران هي حضارة فريدة قائمة بنفسها؛ بهوية ذاتية قوية كما هي روسيا.

3- إيران هي آخر مصدّر للنفط في الشرق الأوسط، والذي لم تستطع الولايات المتحدة بأي طريقة إحكام السيطرة عليه.

بلا شك، هذه المعطيات معطوفة على اعتراف مسؤول كبير في البيت الأبيض، عن غير قصد، بأن تحسين العلاقة مع بوتين بالنسبة إلى ترامب "يمرّ عبر إنهاء التحالف العسكري والدبلوماسي بين روسيا وإيران".

بناء عليه، ترى موسكو أن الولايات المتحدة تبحث عن "دقّ إسفين" بينها وطهران، لأن واشنطن لم تتمكن من تمرير مخططها مع روسيا، وبالتالي هناك عقبة كبيرة جداً أمام النوايا الأميركية، ولذا تتضح الصورة جلية أمام روسيا، وهي أنه عندما يقول ترامب إنه سيقاتل الإرهاب جنباً إلى جنب، ويصنّف إيران "أكبر دولة إرهابية" إنما هو يتوقع - حسب كراشينينيكوفا - من روسيا تسليم إيران شريكنا الحقيقي، وليس بالكلام في محاربة الإرهاب، لكن إذا كان ترامب يريد حقاً دحر الإرهاب، فهو يستطيع ذلك فعلاً، وليس بالتوجّه إلى روسيا وإيران، إنما يرفع سماعة الهاتف ويتصل بالسعودية وقطر، وكذلك بتركيا، ويقول "أيها السادة، هيا اسحبوا جزّاريكم، ولننتهي من الإرهاب".

إذاً، التفاؤل بتراجع الاحتدام الروسي - الأميركي رهن نجاح الإدارة الأميركية في اختباري وقف توسّع الحلف الأطلسي، ومكافحة الإرهاب جدياً، فضلاً عن معرفة أن في العالم دولاً وشعوباً أخرى ليسوا خدماً، وثرواتهم ليست للنهب.