لم يترك الإرهابيون التكفيريون المدعمون من الأميركيين والصهاينة والغرب وبائعي الكاز العربي والنظام التركي وسيلة إلا واستعملوها من أجل تفكيك سورية، وتجويع وتعطيش شعبها، وتدمير تاريخها وسرقة آثارها التاريخية العريقة.

ومع أنه ثبت بالدليل القاطع أن هذا الإرهاب التكفيري هو من استعمل السلاح الكيميائي ومايزال ضد السوريين، إلا أن هذه الحرب الكونية على الدولة الوطنية السورية حاول أن يُلصق تحالفُها التهمةَ بالجيش العربي السوري والدولة.

هذا التحالف الإرهابي الواسع ضد سورية لم يترك أسلوباً لهزّ الدولة الوطنية وهز الثقة الشعبية بها، ووصلت به الأمور إلى تلويث مياه الشفة، وقطعها عن الناس، خصوصاً عن دمشق، وهنا تحضرني رسالة وصلت من زميلة دمشقية حول مياه نبع الفيجة، وكيف وصلت إلى الناس، ففي سنة 1921 فكّر الفرنسيون في جرّ مياه الشرب من نبع الفيجة إلى أحياء مدينة دمشق، على أن يعطوا امتياز هذا المشروع إلى شركة فرنسية.

كان رئيس البلدية يومها يحيى الصواف، فعرض عليه مستشار البلدية الفرنسي مشروع الامتياز وشروطه.. عندها طلب رئيس البلدية من فارس الخوري (الذي كان آنذاك مشاوراً حقوقياً للبلدية) دراسة هذا المشروع.

عندما درس فارس الخوري المشروع تبين له أن شروطه تضرّ بمصلحة السكان، فسجّل اعتراضاته على ظهر الأوراق المقدَّمة إليه، وذلك لتعطيل المشروع الأجنبي. اقترح الخوري تأسيس مشروع وطني تكون فيه مياه نبع الفيجة ملكاً للأمة السورية، وأنهى دراسته بوجوب الاعتذار عن قبول الطلب، لما يحمل بين طياته من الحيف على البلد، وبقاء ري ظمأها في أيدي الأجانب، وتمت إعادة الأوراق إلى مستشار البلدية الفرنسي، الذي غضب جداً من ردّ المشروع، خصوصاً بعد أن قام الخوري بتدوين كل مطالعته على الأوراق المقدَّمة.

بعد حوالي سنة، قامت مجموعة من التجار الدمشقيين بالاجتماع لبحث موضوع تأسيس شركة تجارية لتوزيع المياه من نبع الفيجة، لكن فارس الخوري عارض هذا المشروع بشدة، لأنه أراد أن تكون هذه الشركة عمومية أهلية لا استثمارية، ولذلك قدّم الخوري في اليوم التالي مشروعاً وطنياً مفصّلاً من أجل جرّ المياه من نبع الفيجة، وهذه الدراسة هي التي اعتُمدت ونُفِّذت، وما زالت قائمة إلى اليوم، واختير من أثرياء دمشق ليدفعوا كلفة المشروع، واشتُرط أن يكون مالاً حلالاً لا يعرف عن أصحابه ربا ولا سرقة ولا غيرهما، مما جعل مَن يرفض اشتراكه وصمة عار في حقه، فكان من شارك ودفع أشد فرحاً من الذي لم يشارك، وتم المشروع ووصل الماء

إلى بيوت دمشق مجاناً، وأصبح الدمشقي يدفع اشتراكاً رمزياً، واحتُفل في حديقة المنشية بمناسبة ضخّ المياه، حيث قال فارس الخوري (الذي أصبح فيما بعد رئيساً للحكومة السورية) في خطابه يوم الاحتفال: "الأمة التي تستطيع فتح هذه الأنفاق وبناء هاتيك السدود وإسالة المياه بهذا الأسلوب الرائع، الذي غفل عنه الرومانيون، على جسامة حضارتهم واستبحار عمرانهم، لا تعجز عن النهوض بالمشاريع الأخرى الجسيمة، والتدرُّج في الصناعة والإنتاج، إلى أن تستغني عن كثير من المنتجات الأجنبية، وتؤيد لنفسها توازناً اقتصادياً تصان به ثروتها، ويضمن بقاؤها، وتبني استقلالها السياسي على أركان الاستقلال الاقتصادي الذي بدونه تبقى عرضة لأطماع الطامعين وجشع المستعمرين.. أجل، إن أمتنا فقيرة بالمال لكنها غنية بالإيمان الوطني، ضعيفة بالآلات والأعتاد، إنما هي قوية بالتضحية والغيرة القومية، ومتى كان للأمة إيمانها فإنها تكون قادرة على صنع المعجزات".

ومع أزمة المياه التي تمرّ على دمشق، بسبب سيطرة الإرهابيين على نبع الفيجة، والذي تمكّن الجيش العربي السوري من تحريره، تحضر هذه الأمثولة الوطنية والقومية، التي عمل حلف أعداء سورية ويعمل بشتى السبل والوسائل لتدميرها وإلغاء التاريخ العريق لسورية ودرتها دمشق - الشام، وكل حواضر سورية من حلب إلى حمص إلى حماه وتدمر ودير الزور وحوران والسويداء وغيرها..

فيها قصة تاريخ وحضارة وعراقة..