لم تهدأ الولايات المتحدة الاميركية منذ وصول الرئيس ​دونالد ترامب​ الى البيت الأبيض. ما يجري في أروقتها السياسية هو أشبه بحرب شعواء تدور بين تيارين يتزايد نزاعهما يوماً بعد يوم، ويتكشّف في المواقف وعلى صفحات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.

المراقبون وصفوا الازمة بالحرب الأهلية الباردة في الولايات الاميركية، إنطلاقاً من وقائع المرحلة الحالية التي تتفوق خطورتها على ما جرى ايام "ووتر غيت" و"​ايران​ غيت". القضية أبعد من حزبين يتسابقان: "الجمهوري" و"الديمقراطي". صارت المسألة تتعلق بأمن قومي أميركي تديره مؤسسة حاكمة في الظلّ، سبق وان أطاحت في كل العهود الماضية، بكل من وقف في وجه مشاريعها.

تلك المؤسسة (استابلشمنت) هي عبارة عن مجموعة سياسيين ورجال اعمال واعلام وشخصيات استخباراتية وأمنية، تقود مواجهة مع مجموعة يتقدم صفوفها ترامب.

في الشكل يدور الصراع حول الموقف من ​روسيا​. يصرّ أعضاء المؤسسة الحاكمة على اتهام موسكو بالتدخل وايصال ترامب الى البيت الأبيض. دفع مستشار الامن القومي مايكل فلين ثمن اتصالاته مع الروس. قد يكون ترامب قدّم مستشاره كبش فداء. لكن "دولة المؤسسة" المذكورة تريد الإطاحة بالرئيس الأميركي شخصياً عبر التمهيد لاتهامه بالخيانة العظمى. بدأ مناوئوه يعدّون العدة إعلامياً لوضعه في خانة المذنب. لا يبدو ان الامر سيقتصر على الحرب الاعلامية الجارية ولا النزاع السياسي الظاهر. قد يتدخل القضاء كما فعل في اجهاض قراره حول منع دخول المهاجرين او الآتين الى الولايات من الدول السبع. مجرد تلويح ولايات بترك الاتحاد كما فعلت كاليفورنيا هي عوامل ضغط، لم يستسلم ترامب أمامها حتى الساعة. جميعها مؤشرات تُضعف من حكم ترامب وتصيب البيت الأبيض بالوهن.

الخلافات تدور في ظاهرها حول الموضوع الروسي، وفي البُعد الآخر تشمل التحالف مع الإسلاميين. الصراع يدور داخل الادارة بين من يدعو لإعلان "الاخوان المسلمين" منظمة ارهابية، وبين أجهزة الاستخبارات التي تعارض وضع الحركة على لائحة الارهاب. كلها ملفات دسمة دعت الاستخبارات الى رمي كرات نار امام المكتب البيضاوي بدءاً من مسألة أوكرانيا. كأنها كانت تقول لترامب: اذهب وحلّ الخلاف مع موسكو اولاً حول نفوذ روسي يتمدد ويتعارض مع المصالح الأميركية.

النفوذ يتوسع ليطال الشرق الاوسط. استخبارات "المؤسسة الحاكمة" لا تريد لروسيا ان تستريح في سوريا، ولا يهمها توحيد الجبهة الايرانية الداخلية من خلال تهديدات ترامب. هي تريد ان تبقى موسكو قلقة وقواتها أسيرة القرارات الاميركية. كما لا تريد مهاجمة ايران فقط في التصريحات والعقوبات، لانها تعرف ان الشعب الإيراني يلتف حول قيادته في لحظة الهجوم السياسي الخارجي. هي تسعى لتفكيك جبهة ايران الداخلية بخلق نزاع بين "المتشددين" و"الإصلاحيين".

رغم كل الغزل الترامبي بالإسرائيليين لا تثق تل ابيب بترامب. ​اسرائيل​ تنحاز ضمناً الى المؤسسة الحاكمة التي يدعمها اللوبي الصهيوني.

الخوف الاسرائيلي ايضاً هو من تحالف أميركي-روسي. هذا التحالف قد يجهض مشروعاً تخطط له تل ابيب لرسم شراكة استراتيجية مع دول عربية على نسق "حلف بغداد" البائد، تحت اسم "ناتو عربي" متحالف مع اسرائيل ضد ايران. هذا يقود الى استنتاج بوجود مخططات لحرب تُخاض ضد محور تقوده ايران ويتشكل من قوى المقاومة. خصوصا ان أهداف الأزمة السورية لم تتحقق بإسقاط عواصم "الممانعة". هل تقع الحرب الاسرائيلية على المقاومة في لبنان؟. سؤال يمكن الميل لامكانية صوابيته، في لحظة تفلّت إسرائيلي من اجواء اميركية ضاغطة تتيح لترامب إعطاء الموافقة. عندها تعزّز تل ابيب من حجم التحالف مع "الناتو العربي" الثائر ضد ايران و"أذرعتها".

كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله كان رسالة واضحة للإسرائيليين اسقط من خلالها كل الخطوط الحمراء بإستحضاره تهديد مفاعل ديمونا الموجود في النقب. هذه المرة ستصحّ فور بداية أي حرب مقولة: ما بعد بعد تل أبيب. تغيرت أساليب الحروب. وصار بإمكان وصول حزب الله الى اي هدف.

الأسابيع المقبلة حاسمة. رغم ان الهجمات الاميركية ضد ترامب تحتل الحيّز الأكبر من الاهتمامات الدولية، لكن خلف الحملة يوجد ملفات ومصالح تبدأ من واشنطن ولا تنتهي عند تل ابيب.