أعجبتني جدّاً فكرة "إستئناف الحضارة في العالم العربي"،لأنّ الحضارة لا تموتعندما نربطهابالمستقبل". أطلقها العقل المسكون بالموجات والأفكار الإيجابية صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الحديث ضمن القمة العالمية للحكومات. يندرج الإستئناف كمحطّة إيجابية لا تلغي الماضي قطعاً، لكنها تحترم التوقفّ والتعثّر الذي يمكن أن تقع فيه الحضارة بهدف إستيعاب المحنة والحكمة. نصادف الإستئناف كمصطلح قانوني في أحكام الدرجة الإبتدائية عندما تفتقد المحكمة للعدالة، ويذهب الأمر الى التمييز في حال فقدان العدالة في الإستئناف، لكنّه مصطلح جاء إستعماله موفّقاً وغنيّاً في في دوران الفكر حول مصطلحات سلبيّة تبدأبالإنقطاع أو الإنحطاط أو السقوط أوالإنهيارولا تتوقف عند الإنتحار الحضاري.

إستهلكت عقودا من التعليم والأبحاث الجامعية في الحفر عن تجديد الحضارة العربيّة وإستنطاقها بما يجعلها قابلة للحياة والحوار والإنطلاق. قد يأخذنا التأمّل والإنشغال بتجديد الفكر العربي وإضاءة دروب التنوير والخروج من هذا الإنقطاع والتهديم والتشويه الحاصل لحضارتنا العربيّة ولأنساق القيم المجتمعية والدينية من حولنا الى حدود وقوعنا بالنكوص وها قد وضع حاكم دبي يده على لؤلؤة ثمينة تقول بأنّ الحضارات قد تتجمّد وتتوقف، لكنها تتابع المسير، خصوصاً إذا كان الهمّ منصبّاً على الحكومات العربيّة في السير عبر إستراتيجيات التغيير لئلاّ يأتي التغيير مفروضاً من الغير. يفترض هذا التوجه الإيجابي لا الإنكماشي الغالب، الإيمان بأنّ "المنطقة العربيّة هي مهد الحضارة الإنسانية وإنسانها هو الذي يصنع الحضارات والاقتصاد والمال، وإذا نجح الإنسان في بناء حضارة في الماضي، فهو قادر من جديد على استئنافها.... لأنّ أكبر إنجاز يتمثّل في صناعة الإنسان"...الإنسان الإداري.

دلّوني عمّن يقول بصناعة الإنسان في وطننا العربي؟ تحيّة لحاكم يخاطب العرب بقوله:" أقول لهم اتركوا خطابات السبعينات، واتركوا حلماً قديماً وانفتحوا على العالم. لماذا الانفتاح على الجيران فقط، في ظل سوق عالمية واحدة أنهت الحدود.نصيحتي أن توقفوا الحديث عن السوق العربية المشتركة؛ هذا حلم قديم، ووزراء التجارة مازالوا يحلمون بالسوق العربية المشتركة. اليوم العالم تغير وأصبح سوقاً عالمية مشتركة".

هكذا تعوّدنا بإخلاص أن نخاطب طلابنا في الجامعات والمحاضرات والدراسات العليا بتوسيع حدقة العين والبصيرة في النظرة المستقبلية الى العالم.

يرشدنا تاريخ الحضاراتإذ نقرأه أفقيّاً، الىتعيين غير نهائي لنقاط أو ملامحالتفاعلٍ الحتميوالطبيعي بين الشعوب بثقافاتهم المتنوّعة. هذه الملامح خاضعة بالطبع للتقارب الجغرافي أو تطويع الجفرافية وأساليب التواصل والغلبة التي كانت وما زالت تشكّل، بالنسبة لطرائق تفكيرنا، نتؤآت وحواجز وأحداث مؤلمة بين الشعوب، يتغلّب فيها الأقوى بعدما تؤدّي التفاعلات الى الحروب الهائلة والإخضاع.وقد تأخذنا النظرة العامودية أحياناً الى الكشف عن خصوصيّات حضارية باهرة، كما نموذج دبي، الذييحتاج لأن يغوص فيها علماء الإنتروبولوجيا،ولا يستطيع باحث أن يتجاهله عندما يغوص بحثاً عن فلسفة الخروج من أعباء الإنقطاعات الحضارية.يساعد التفاعل في بث الحيوية في الحضارات الواقفة كما التفاعل بين حضارتي مصر والهند مع حضارة بلاد ما بين النهرين، أو التقارب والتداخل والنقل بين حضارات أوروبا وآسية وحضارات الصين والهند. وقد يكون هذا التفاعل قد ضمر على أكثر من مستوى والى حدودٍ كبيرة بعدما تمدّدت أميركا بتقنياتها وعظمتها نحو العالم كلّه وهي في الواقع لم تشكّل أو تؤسّس لحضارةً جديدة وفقاً للمفاهيم السائدة ولو أنّها قدّمت نفسها متقدّمة ورائدة في المجال.

المهم، أنّ هذا التفاعل، كان يثير،على الدوام، مخيّلة المفكّرين الى حدود الوهم بأنّ الإنسانية تتّجه نحو حضارة واحدة، وقد يساعد الإتّصال بين الشعوب في التعجيل من هذا الحلم.

حاول آرنولد توينبي، التمييز بين البداوة والمدنيّة في نظرته الى الحضارات وقد أحصاها في إحدى وعشرين مجتمعاً حضارياً إندثرت بمعظمها، ولم يبق منها سوى سبع تعصف بها أسباب الإنحلال هيالأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية، والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية، والهندوكية، والصينية،والكورية-اليابانية؛ أمَّا السابعة، أي الحضارة الغربية، فهو لميقرّر مصيرُها النهائي. لقد حاول التأكيد نظريّاً، بأنّ الإنسان هو في تحدّ دائم من الطبيعة والبشر، وتفترض التحدّيات الإستجابات، وبإختلاف هذه الإستجابات تختلف الجماعات، فإذا كانت الإستجابات تواصلية وغنيّة تصبح عنواناً للتمدّن والتطوّر، بينما إذا كانت ضعيفة، باهتة، تبقى عنواناً للبداوة أو للتأخّر، لهذا يمكن أن تختلط الصور البدائية بعناصر أكثر تقدّماً كالدين والفن والأدب.

يعترف توينبي بأنّه تأثّر بأبن خلدون في مقدّمته الشهيرة، وأخذ فكرة"التحدّي والإستجابة" عند تفسير نشوء الحضارات الأولى التي غالباً ما ذوت إنتحاراً لا موتاً،

من علماء النفس السلوكيين وفي رأسهم كارل يونغ( 1875- 1961) الذي يرى بأنّ الصدمة التي تعترض فرداً ما تولّد لديه بعد فترة من اللاتوازن إستجابتين: إمّا العودة الى الماضي والإحتماء به تعويضاً عن الحاضر أو الواقع الصعب، وهو ما قد يقود الى مرض الإنطواء، أو تقبّل هول الصدمة وآثارها ونتائجها ومحاولة التغلّب عليها والقفز فوقها في سلوكٍ إيجابي إنبساطي إستئنافي كالذي يدعو إليه بشجاعة حاكم دبي.

بهذا المعنى، "يمكن النظرة الى مقياس النموّ بكونه التقدُّم في سبيل التحقيق الذاتيّ. ويكون ذلك “عن طريق المُبدِعين من الأفراد، أو بواسطة الفئة القليلة من هؤلاء القادة المُلهَمين الذين يعملون 48 ساعة وأكثر في ال24 ويتأمّلون ويحلمون، فتستجيبُ لهم الأكثريَّةُ عن طريق المُحاكاة الآليَّةالتي تُمثِّلُ الطريقةَ الغالبة في عمليَّة الانقياد الاجتماعيّ نحو مشاهد التطوير. وتـقود هذه المُحاكاةُ في الجماعة البدائيَّة إلى حركةٍ سلفية تـنزعُ إلى مُحاكاةِ القُدَماء، بينما هي في المُجتمعات الحضاريَّة النامية حركةٌ تقدُّميَّة تُؤدِّي إلى مُحاكاة الطليعة الخلاَّقة.

لا يمكن قياس المدى الذي ينطبق على هذه المقاربات من أجل فهم تعامل العرب والمسلمين مع الغرب، لكنّ السؤآل الذي لم يتغيّر هم : هل أنّ العودة الدائمة الى إحياء قوّة الدين قادرة دوماً على ترميم هول الصدمات الناتجة عن الشعور بالتخلّف عن الآخر واللجوء الى النكوص في الماضي؟

هنا تبرزكيفية تطوير الحضارة، عبر إبعاد الدين عن السياسةوتبرز قيمة الوقت وقيمه The time is miney في قاموس دبي، والزمان هو مقياس الحركة لا يتوقّف في البحث عن التطوير"لأن الوقت كالنهر يذهب ولا يعود"، وبالتالي ينصحنا سموّه، بالمحافظة على الوقت والإنجاز الذي يعني دوام التعلّم والبحث عن الشباب والشابات حيث الإدارة قيادة يفترض نجاحها مثلّث الخبرة والمعرفة بمعنى التخطيط والشجاعة، فإن فقدنا أحد الأضلاع الثلاثة يقع الفساد وتختّلّ المجتمعات والفساد في الحكومات والدول سبب التخلف.