لا ضير ولا خجل من أن يثق أبناء الداخل بكلِّ كلمةٍ يقولها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله طالما أن الداخل الإسرائيلي نفسَه لا يتوانى عن أخذ كلامه على محمل الجد. يبدو أن القصّة على ما فهمها الإسرائيليون تتجاوز هذه المرة فعاليّة الـ "أس إي 22” والـ”ياخونت” وسواهما من تلك المحفور عليها اسمُ موسكو.

لا تنفكّ إسرائيل تهوّل، ولا ينفكّ نصرالله يردّ التهويل الى بيت أصحابه بتهديد "يُرجَف" العدو أيامًا وتستفيض الصحف الإسرائيلية في مقاربته وتحليله وإبعاد مستوطناتها عن صواريخ المقاومة استباقًا لمشهديّة صفارات الإنذارات والتدافع نحو الملاجئ والتي عهدتها إسرائيل بعد حرب تموز الشهيرة. مذاك الحين ونزاعٌ جدليٌّ يتقاسم الكيان: أنخوضُ حربًا جديدة نخرج منها خاسرين منكسرين أم نبقى في إطار التهويل الكلامي الإعلامي؟

لا يشبه نفسه...

لا يشبه حزب الله نفسه بعد عشر سنوات ونيّف. حزب الله 2006 يختلف عن حزب الله 2017. اعتباراتٌ عدّة تقاربها إسرائيل جديًا هذه المرة أوّلها تطوير حزب الله ترسانته العسكرية وتعزيزها بأسلحةٍ روسية متطوّرة، ثانيها دخول روسيا الى المنطقة وفرض نفسها لاعبًا أساسيًا سياسيًا وعسكريًا من بوابة الأزمة السورية، وثالثها الانتصارات المتعاقبة وعروض القوة وقلب الموازين التي يقدّمها حزب الله في سورية تحديدًا. كلّ تلك الاعتبارات تحول دون إقدام إسرائيل على ارتكاب "حماقةٍ" من قبيل حرب تموز الغابرة مكتفيةً بدورياتٍ على الحدود وردٍّ طفيف على صواريخ تُطلق من الداخل اللبناني ويتبيّن بعد ساعاتٍ أن مطلقها ليس حزب الله.

خط الدفاع الأول

في الأمس أطلّ السيد نصرالله حاملًا كعادته في ذكرى الشهداء مفاجآتٍ جمة من العيار الثقيل لإسرائيل. مفاجآت من تلك التي لا يستسيغها العدو لا بل يخشاها. ما إن يقول السيد كلمته ويمضي حتى تسارع الصحف الى تنبيه القادة وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو الذي حصل على تطميناتٍ أميركية من الرئيس الجديد دونالد ترامب مفادُها أن خطّ الدفاع الأول للولايات المتحدة في المنطقة هي إسرائيل ولا أحد سواها. تطميناتٌ لا تنسحب على حزب الله غير المنكفئ عن انتقاد ترامب وسياسته ومواقفه في غير مناسبة وغير المُستساغ إيرانيًا على السواء بعد إقحام أنفه في الاتفاق النووي وبدء محاولة هزّ أسسه التي أرساها سلفُه باراك أوباما واضعًا حدًا لخصومةٍ عمرها سنون.

ليس هاوي حروب

ليس حزب الله في وارد استهلال الحرب ولا هو هاوي حروب تكلّف البلاد أموالها وممتلكاتها والعباد أرواحهم وأعصابهم. هي مجرّد حربٍ نفسية متبادلة على ما يقرؤها عارفون ومواكبون. حرب يجيد الطرفان إدارتها بحكمةٍ وذكاء ويتفوّق فيها السيد نصرالله بشخصه منفردًا، ولو كان الاستعداد الذي يتحدّث عنه جديًا لكن على قاعدة ردّ الهجوم في إطار تعزيز معادلة التوازن والردع. بمعنى آخر، أما وقد أمّ الاستقرار السياسي والأمني لبنان، فليس حزب الله في وارد "الحركشة" أو إدخال لبنان في حربٍ جديدة هو في غنى عنها مع انطلاقة العهد الجديد، حتى ولو كان كلام السيّد نصرالله يشي بخلاف ذلك عندما هدّد بالوصول الى خزانات الأمونيا في خليج حيفا أنّى نقلوها، لتسارع إسرائيل أمس الى إخلائها. بكثير من الأدوات والمواقف يتسلّح الرجل ليرفع سقفه في وجه الإسرائيليين. بإيمان بالتفافٍ شيعي وشعبي حوله أي ببيئته الحاضنة، بإيمان بنوعية أسلحته وجودتها ولا سيما الروسية منها، بإيمان بوقوف رئيس الجمهورية ظهيرًا له كمقاومة وجبلًا قابعًا في بعبدا وهو ما ثبّته الرئيس العماد ميشال عون في مقابلته الأخيرة مع القناة المصرية بشرعنته سلاح حزب الله في وجه العدو، بإيمان بأن إسرائيل أجبن من أن تخوض حربًا جديدة في غمرة التوازن الذي أرساه حزب الله أولاً وكرّسته روسيا في المنطقة ثانيًا، وأخيرًا بإيمان جلي بقدرته على قلب الموازين وبتوجيه رسالة واضحة الى الإسرائيليين مفادها أن الحرب الجوية لم تعد وحدها تصنع نصرًا والميدان السوري خير مثال إذ لولا رجال الميدان من الجيش السوري وحزب الله لما حققت الشرعية تقدمًا واضحًا على جبهاتٍ عدة رغم أن المرافقة الروسية الجوية متوفرة.

تهديدٌ فعلي؟

ليس ما يقوله نصرالله خفيًا على الداخل الإسرائيلي البتة. فمنذ قرابة شهر ونصف الشهر شهد شاهدٌ من أهل البيت وأقرّت صحيفة معاريف بأن حزب الله يمتلك اليوم سلاحًا دقيقًا يمكن أن يصيب أي نقطة على خريطة إسرائيل. واقعٌ يُرعِب الإسرائيليين ويجعلهم يحتاطون برفع سقف تحدّيهم وباستفزاز أهل الحدود وجنودها. ويذهب الإسرائيليون بعيدًا في تضخيم صورة رعبهم مما طوره الحزب حدّ قولهم إن "قوة حزب الله باتت تفوق بتهديداتها تلك التي تشكلها القوة الإيرانية، وذلك استنادًا الى ما أظهره حزب الله من صلابة وتماسكٍ في الميدان السوري ومواصلته نقل الأسلحة المهمة من إيران إلى المخازن في لبنان والتزوُّد بأسلحة كاسرة للتوازن ومراكمة خبراته القتالية". إذًا حزب الله في نظر "معاريف" بات يشكّل تهديدًا فعليًا لإسرائيل التي على كلّ شخصٍ فيها أن يقلق من هذا التطوّر النوعي والكمّي.

تدمير الكنيست!

ليس كلامُ معاريف جديدًا على الداخل الإسرائيلي، بيد أن قناعتها بقدرات حزب الله وإصرارها على تحذير القادة يتعززان في ما كتبته منذ أقل من شهر ومفادُه أن "حزب الله وحماس معًا يمتلكان صواريخ قادرة على تدمير الكنيست، وهو ما يعكس محصّلة جلية وواضحة قائمة على قناعةٍ إسرائيلية جليّة بأن الحرب "الافتراضية" على لبنان ستكون هذه المرّة شديدة الكلفة ماديًا وبشريًا ومعنويًا وأن الاكتفاء بلعبة التهويل الكلامية خيرُ ما يفعله الإسرائيليون حتى الساعة في انتظار مبادرةٍ أميركية لحفظ ماء الوجه. وتنحو تلك القناعة أكثر فأكثر الى أن الدولة العبرية لن تكون حتى في وارد الردّ "همجيًا" على أي استفزازٍ عاديّ، بمعنى آخر لن تأخذ على نفسها الردّ على صاورخ "طائش" أو حتى عملية استفزاز حدودية بحربٍ، الداخل اليها غير الخارج منها... وكلام نصرالله أهلٌ بالتصديق.