"أيّ محاولة ​اسرائيل​ية للنيل من السيادة اللبنانية ستجد الرد المناسب"...

قد تبدو هذه العبارات، التي صدرت عن رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون رداً على التهديدات الإسرائيلية العلنيّة للبنان، الحدّ الأدنى المطلوب من أيّ "رئيسٍ قويٍ"، في جمهوريةٍ يريد مواطنوها أن تكون، فعلاً وقولاً، "سيّدة وحرّة ومستقلّة"، الأمر الذي يستدعي قبل كلّ شيء منع أيّ كان من "استباحتها" تحت أيّ ظرفٍ.

ولكن، في لبنان، تتحوّل هذه العبارات إلى "مضبطة اتهام" تُرفَع بوجه رئيس الجمهورية، وكأنّه ارتكب "ذنباً" أو "خطيئة"، فيختار البعض تجاهل هذه التصريحات والتعامل معها كأنّها لم تكن لتفادي أيّ سجال لا طائل منه مع الرئيس، فيما يستنفر آخرون لاتهام "بيّ الكلّ"، بأنّه لم يعد كذلك، وأصبح "ملحقاً" بفريقٍ سياسي محدّد، في إشارةٍ إلى "حزب الله"!

قوة لبنان في قوته

حين قرّر رئيس الجمهورية أن يردّ على التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة ضدّ لبنان بتهديداتٍ مماثلة، وفق قاعدة "قوة لبنان في قوته لا في ضعفه"، لم يكن على الأرجح يتوقّع أن يخرج أحدٌ من اللبنانيين ليبدي "امتعاضاً"، بل كان يعتقد أنّه سيحصد تقديراً من جميع الأفرقاء، الذين يتشاركون، في المبدأ، رفض التهديدات الإسرائيلية المتمادية، بغضّ النظر عن الموقف من "حزب الله" وسلاحه.

قال الرئيس عون أنّ إسرائيل ستجد الردّ المناسب فيما لو حاولت النيل من السيادة اللبنانية أو تعريض اللبنانيين للخطر، وهو موقفٌ يفترض أن يكون "جامعًا" بالنسبة للبنانيين، فالرجل ينطق باسمهم، ويعبّر عن مصالحهم جميعًا من دون استثناء، تمامًا كما يدافع عن السيادة اللبنانية الكاملة وغير المنقوصة. وذهب الرجل أبعد من ذلك حين أعلن أنّ "الزمن الذي كانت فيه إسرائيل تمارس سياستها العدوانية ضد بلدنا من دون رادع قد ولّى إلى غير رجعة"، مطلقاً معادلة "الدولة القوية"، التي لا يمكن إلا أن تكون قوام "العهد القوي" الذي يطمح "الجنرال" أن يكون عنوان عهده على كافة المستويات.

وبغضّ النظر عن انسجام هذه المواقف مع سياسة عون خلال مرحلة ما قبل وصوله إلى قصر بعبدا من عدمه، فإنها تتطابق لا شكّ مع شخصيّته العسكريّة الطابع، هو الذي يستفزّه التحدّي والتهديد إلى أبعد الحدود، وبالتالي فهو أراد من خلال كلامه أن يوصل رسالة عالية النبرة لكلّ من يعنيه الأمر، في الخارج قبل الداخل بطبيعة الحال، أنّ لبنان اليوم لا يشبه لبنان الأمس، وسياسة التهديد والترغيب لم تعد تنفع معه.

وفي هذا السياق، كان لافتاً وضوح الرئيس عون وحزمه بحديثه عن "الدولة اللبنانية" ككلّ، وهو تقصّد ذلك، لينقل الصراع من صراعٍ يريد البعض تصويره على أنّه "أيديولوجي" يخصّ فئةً معيّنة دون غيرها إلى صراعٍ مبدئي بكلّ ما للكلمة من معنى، ينطلق من حقّ الدولة برمّتها بالدفاع عن نفسها، الأمر الذي يفترض أن يكون فوق الجدال والسجال، وهو ما يؤكده البيان الوزاري لحكومة العهد الأولى، بل للحكومات المتعاقبة منذ عقودٍ من الزمن...

عون منع الحرب؟!

في ردوده على التهديدات الإسرائيلية، لم يُشِر رئيس الجمهورية إلى "حزب الله" وسلاحه، من قريبٍ أو من بعيدٍ، ولكنّ ثائرة خصوم الحزب ثارت. إلا أنّ ذلك قد يكون طبيعيًا وغير مفاجئ، باعتبار أنّ خطاب التهديد لإسرائيل كان حكرًا طيلة الفترة الماضية على الحزب وأمينه العام السيد حسن نصرالله، الذي كان يُلام على أنّه يصادر حق الدولة اللبنانية باتخاذ القرارات المصيرية، وعلى رأسها قرارات الحرب والسلم.

ولعلّ "توقيت" مواقف رئيس الجمهورية، بعد نحو 48 ساعة على تهديداتٍ من جانب "حزب الله" لإسرائيل أيضًا وُصِفت بالأخطر على الإطلاق منذ سنواتٍ طويلة، وبعد أقلّ من أسبوع على مواقف مساندة للحزب وسلاحه، من جانب عون، وصولاً لحدّ "شرعنته"، زاد من "تعقيدات" الموقف، فأظهره، من حيث يقصد أو لا يقصد، متناغمًا مع سياسة الحزب، الذي ذهب لحدّ تصنيف موقف الرجل "الثابت" كأحد عوامل قوة لبنان.

ولكن، وبعيدًا عن الخلافات السياسية وغير السياسية مع الحزب، وبمعزلٍ عن الموقف من سلاحه واستخداماته، أين الضرر في مثل هذا التناغم في مواجهة تهديدات من يعتبرها جميع اللبنانيين عدواً؟ أليس الأولى أن يظهر لبنان موحّداً وقوياً في مواجهة من يهدّده من أن يظهر ضعيفاً ومتشرذماً، بل منقسماً على نفسه؟

ويكفي للإجابة على مثل هذا السؤال التمعّن بعض الشيء في الأبعاد التي يمكن أن يحقّقها مثل هذا الموقف "القوي" للرئيس، فهو، وبعيدًا عن تفسيره "المسيّس" من قبل البعض على أنّه "خضوع" لهيمنة "حزب الله" ومن خلفه إيران، وما شابه من التأويلات، يُسهِم بشكلٍ أساسي في منع الحرب، عبر القول لإسرائيل ومن وراءها أنّ الرهان على انقسام لبناني في مواجهتها هو "حلمٌ بعيد المنال". بمعنى آخر، فإنّ موقف رئيس الجمهورية يمكن أن يسهم في مكانٍ ما بوقف التهديد، بل بمنع الحرب من أساسها، خصوصًا في ضوء ما سرّبه بعض المقرّبين من الرئيس عن إمكانية تحوّل موقفه إلى كتابٍ رسمي للأمم المتحدة إذا اقتضى الأمر ذلك، ما يعني أنّ لبنان لن يكون لقمة سائغة لأحد.

وداعًا للغة الخشبيّة!

أن تهدّد إسرائيل لبنان ليلاً ونهاراً بات أمراً عاديًا لا يستحقّ أيّ تعليق أو استنفار من قبل بعض اللبنانيين، ممّن باتوا يتعاملون مع الخروقات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً أصلاً كأمرٍ واقعٍ يفترض السكوت عليه، تفاديًا لأيّ مغامرةٍ غير محسوبة النتائج.

ولكن، أن يتجرّأ رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، على مخاطبة الإسرائيليين من موقع قوةٍ يدركها ويلمسها، على طريقة "العين بالعين والسنّ بالسنّ"، فهو أمرٌ مستهجَن يستدعي استنفار هؤلاء، وصولاً حتى إعلان حالة الطوارئ، لأنّ لبنان بات دولة "أسيرة ومرتهنة".

وبعيدًا عن ازدواجية المعايير الفاقعة في مثل هذه المقاربة، يصحّ القول أنّ الرئيس ميشال عون كرّس ثابتةً لن يكون من السهل التراجع عنها لاحقاً، وقوامها أنّ اللغة الخشبية في التعامل مع أعداء لبنان أصبحت في خبر كان...