عندما اشتدّت أزمة قانون الانتخاب، كان رئيس حزب "الكتائب" النائب سامي الجميل أول "المبادرين" لدعوة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى جمع كافة الأفرقاء في قصر بعبدا للتوافق على قانون الانتخاب، على طريقة "طاولات الحوار"، التي عقدت سابقاً سواء في بعبدا في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، أو في عين التينة في ظلّ الفراغ الرئاسي.
لكنّ رئيس الجمهورية لم يفعلها، وانتظر حتى إقرار قانون الانتخاب وإطلاق ورشة تشريعية وإصلاحية في البلاد ليدعو إلى لقاءٍ تشاوريّ جامع في القصر، إلا أنّ المفاجأة أنّ "حزب الكتائب" استثني من الدعوة، بحجّة أنّ "الآلية" التي انطلق منها الرئيس حصرت الدعوة بالأحزاب الممثّلة في الحكومة، آليّةٌ يقول البعض أنّها "فُصّلت" لعزل "الكتائب"، لا أكثر ولا أقلّ...
لا "مؤامرة"؟
مع توجيه الدعوات إلى اللقاء التشاوري في قصر بعبدا، انقسمت الآراء سريعًا حول خلفيّات استثناء بعض القوى المعارضة، وعلى رأسها حزب "الكتائب"، الذي لطالما كان من الأحزاب الرئيسية التي شاركت في كلّ الحوارات التي كانت تعقد سابقاً، كما أنّ حيثيّته، رغم التفاوت في النظرة إليها، لم تكن يومًا محلّ جدال ونقاش.
بالنسبة للرأي الأول، الذي يبدو أنّ أوساط "التيار الوطني الحر" تبنّته وتداولته خلال الساعات الماضية، فهو ينطلق من "الآلية" التي وضعها رئيس الجمهورية للقاء بعبدا، من حيث حصر المشاركة فيه بالأحزاب الممثَّلة في الحكومة فقط لا غير، وهي آليّة لم يكن الهدف منها القيام بـ"مؤامرة" على "الكتائب" أو غيرها، بقدر ما كان عدم توسيعه بما يؤثّر على إنتاجيّته، خصوصًا أنّ عدم وجود معيارٍ واضحٍ لتوجيه الدعوات كان سيدفع أيّ حزبٍ، مهما صغر حجمه، إلى المطالبة بـ"حقّه" في المشاركة، وهو ما كان يحصل في السابق.
ووفقاً لهذا المنطق، فإنّ استثناء "الكتائب" من الحوار لم يكن متعمّدًا، وإنما نتيجة لاعتماد معيار التمثيل الحكومي، خصوصًا أنّ الرئيس عون يرفض تصنيف لقاء بعبدا ضمن سلسلة "الحوارات" التي كانت تحصل في السابق، وهو تفادى الدعوة إلى مثل هذا الحوار في عزّ الأزمة رغم كلّ المناشدات التي تلقّاها، حتى لا يُقال أنّه يكرّر ما سبقه إليه "أسلافه"، وهو الذي يريد أن يسجّل التاريخ أنّ عهده لا يشبه أيّ عهدٍ آخر، وأنّه شكّل ولادة سياسية جديدة أنهت معها كلّ مفاعيل ما سبقه من عهود.
رسالة واضحة...
إلا أنّ هذا المنطق لا يبدو، على الأقل بالنسبة لحزب "الكتائب"، سوى "الستار" الذي يختبئ خلفه معظم المشاركين في لقاء بعبدا، وليس رئيس الجمهورية بالتحديد، لاستثناء النائب سامي الجميل على وجه الخصوص من المشاركة، ربما لحرمانه من فرصة "تعكير صفو" الاجتماع، خصوصًا بعدما بات يغرّد خارج سربهم جميعًا، لدرجة لم يعد بعضهم يتحمّل الاستماع إليه، كما حصل في جلسة المجلس النيابي مثلاً حين انسحب رئيس الحكومة سعد الحريري من قاعة الهيئة العامة "امتعاضاً" من كلام الجميل.
ولذلك، يرى "الكتائبيون" أنّ الرسالة من "ابتكار" آليّة لعزلهم ليس إلا رسالة أكثر من واضحة، ولعلّ ما يعزّز ذلك هو السؤال المطروح عن "جدوى" مثل هذا اللقاء بصورةٍ عامّة، إذا كان محصورًا بمكوّنات الحكومة، التي يفترض أنّها تجتمع بصورة دورية وشبه أسبوعيّة، سواء في قصر بعبدا نفسه أو السراي الحكومي. وانطلاقاً من ذلك، يبدو أنّ هناك احتمالين لا ثالث لهما في تفسير لقاء بعبدا، يقول الأول أنّ الاجتماع لا يصبّ سوى في خانة "الاستعراض"، ما يعني أنّه "لزوم ما لا يلزم"، وإلا فهو اعترافٌ مضمرٌ من قبل مكوّنات الحكومة بأنّ القرار ليس بيد الوزراء، وأنّ "أولياء أمرهم" هم من يجب أن يجتمعوا، ما يضرب بل ينسف مفهوم المؤسسات عن بكرة أبيه.
"الكتائب" يتيماً؟
عمومًا، وأبعد من "لقاء بعبدا" التشاوري وخلفيّاته ودلالاته، بات واضحاً أنّ حزب "الكتائب" في ظلّ رئاسة سامي الجميل أصبح "شبه يتيم"، بفعل خلافاته المتزايدة مع كلّ أحزاب السلطة، بما فيها تلك التي شكّل الحزب معها تحالفاتٍ آنيّة واستراتيجيّة، على حدّ سواء، لدرجة أنّه بات اليوم يتقرّب من المجتمع المدني أكثر فأكثر، ويشعر أنّه جزءٌ منه بشكلٍ أو بآخر.
وإذا كان "الكتائب" بدأ يشعر بمخطّط "العزل" منذ تشكيل ثنائية "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، فإنّ كلاً من الحزبين يعتبر أنّ النائب الجميل هو من رسم هذا المصير لنفسه ولحزبه بإصراره على سلوك اتجاه "المزايدات الشعبوية" على حساب علاقته بهما، ولعلّ أداءه خلال الانتخابات الرئاسية وما بعدها شكّل الدليل على ذلك، إذ بدل أن يرمّم علاقته برئيس الجمهورية، انسجامًا مع تاريخ "الكتائب" الذي لطالما صُنّف على أنّه "حزب الرئيس"، لم يفوّت فرصة للتصويب على العهد والرئيس، بمناسبة ومن دونها، وهو دخل في صراعٍ حتى مع رئيس الحكومة سعد الحريري، الذي لم يترك أحداً على الساحة السياسية في الآونة الأخيرة، إلا وانفتح عليه، وبشكلٍ مبالَغٍ به.
وعلى الرغم من أنّ الوقت لا يزال مبكراً للحديث عن التحالفات الانتخابية، بدأ البعض يتحدّث عن اتجاه "الكتائب" للدخول في تحالفٍ مع "تيار المردة" والنائب بطرس حرب وسواه من المستقلين، الذين يجمعهم "الهدف الأكبر" بضرب "التيار" و"القوات" في الصميم، اتجاهٌ يبقى غير محسومٍ حتى اللحظة، ليس فقط لأنّ القانون النسبيّ الجديد خلط كلّ الأوراق، وليس لأنّ حزب "الكتائب" باستراتيجيته الجديدة يريد خوض المعركة جنبًا إلى جنب المجتمع المدني، ولكن لأنّه مقتنع بأنّ أبواب التحالفات الانتخابية تبقى مفتوحة حتى إشعارٍ آخر.
إنها المعارضة...
يُتّهَم حزب "الكتائب" بأنّه من يعزل نفسه بنفسه بإصراره على إثارة "الشغب" والذهاب لـ"معاداة" أحزاب السلطة، من دون اعتبارٍ لأحد، وذلك كرمى لعيون "شعبوية" لن تفيده في صندوق الاقتراع.
ولكن، أليس ما يفعله "الكتائب" هو، ببراءةٍ أو من دونها، دور المعارضة التي تتغنّى أحزاب السلطة بأنّ القانون المشوّه للنسبية الذي أقرّته سيسمح بتوافرها في المستقبل، بعدما غُيّبت لسنوات وسنوات؟ وأليس ما تفعله هذه الأحزاب، في المقابل، عن قصد أو من دونه، هو احتكار الساحة، والقول لمن يخالفها الرأي أنّ لا مكان له بينها؟
وأبعد من ذلك، أيّهما أخطر على الديمقراطية، أن يذهب نائبٌ بعيدًا في معارضته للسلطة، سواء بسبب أو من دون سبب، أم أن يصمّ رئيس الحكومة، مثلاً، آذانه حتى لا يسمع ما يقوله هذا النائب، بكلّ بساطة؟!