ما كانت مدينة شكا قد استراحت من مشكلة المحرقة التي أثارتها "النشرة" مراراً، والتي كان من المقرر إنشاؤها بهدف التخلص من شتى أنواع النفايات بطريقة كانت ستؤدي حتماً إلى مشكلة بيئية وصحية كبيرة، حتى استفاقت على مشكلة جديدة من "العيار" نفسه، لا بل قد تكون أكثر خطورة بحسب الناشطين البيئيين في المنطقة. فقد منحت وزارة البيئة اللبنانية شركة "هولسيم" الحق الحصري بالتخلص من الأدوية منتهية الصلاحية وغير الصالحة للإستهلاك في "فرن" المصنع.

عندما تتلاقى المصالح...

في هذا الإطار، تؤكد مصادر مطلعة على هذا الملف أن "هنالك محاولة من شركة "هولسيم" بشتى الطرق لتأمين مواد للحرق وتشغيل المعمل من شتى أنواع النفايات، إلى جانب الفحم الحجري والبتروكوك لتوفير كلفة الإنتاج، وذلك لأن كلفة تأمين الطاقة في الصناعة، غالباً ما تثقل كاهل الصناعي وترفع من كلفة الإنتاج". ومن جهتهم، يسعى تجار الأدوية لإيجاد وسيلة سهلة للتخلص من الأدوية منتهية الصلاحية التي لا يمكن تسويقها لأنها لم تعد قابلة للإستهلاك. وعملية التخلص منها تصبح عبئاً عليهم، وهي عملية دقيقة تتم وفق شروط عالمية يجدر احترامها لكي لا تؤدي إلى كارثة بيئية وصحية. وتشير المصادر إلى أن "أمام هؤلاء حلاً من اثنين:

1- إما، أن تتضمن اتفاقيتهم مع الشركة المصنعة مادة تؤكد إعادة الأدوية المنتهية الصلاحية إلى المصنّع. وهذا أمر ممكن لأن المصنّع في أوروبا هو مسؤول عن البضائع من مهدها إلى لحدها، أي من باب المصنع وحتى "المدفن" أي حتى التخلص النهائي والسليم منها. ولكن هذا يرفع الكلفة عليهم لناحية: دفع رهن للمصنع يستردّونه عند إعادة الأدوية إليه، أو لناحية كلفة نقل الأدوية إلى المصنع.

2- الحل الثاني، يكمن بتجميع الأدوية منتهية الصلاحية وكل النفايات الطبية وترحيلها حسب اتفاقية "بازل" (إدارة حركة النفايات الخطرة عبر الحدود)، وإرسالها إلى بلد لديه القدرة التقنية على التخلص السليم منها. وهنا أيضاً على المستورد تحمّل كلفة النقل".

وبالتالي، ترى المصادر أنه، "هرباً من الكلفة الباهظة، يسعى مستوردو الأدوية إلى التخلص من أدويتهم المنتهية الصلاحية "بالتي هي أحسن"، عبر إرسالها إلى محرقة معمل "هولسيم" الذي يستفيد بدوره من ذلك لأنه يأخذ بدلاً للأتعاب، وإلى جانب ذلك، ينتج طاقة إضافية من الأدوية المحترقة ويوفّر جزءاً من استخدامه للفحم الحجري والبتروكوك المرتفع الكلفة". وتشرح أن بعض الأدوية لديها طاقة انتاجية بحد ذاتها وتولد الطاقة عند الحرق لتشغيل العملية الصناعية، وبعضها الآخر، يتم الإستفادة من البلاستيك المغلف به ومن مواد أخرى في العلبة.

ويكمن الخطر هنا، بحسب المصدر، "إذ إن الأدوية متنوعة، وكل فترة قد تدخل إلى المحرقة أنواعا جديدة، وبالتالي فإننا لا نعرف ما الذي سيدخل وما الملوثات التي ستصدر عنه، وهذا يؤكد صعوبة وضع الفلاتر المناسبة". وهنالك أيضاً تخوف أكيد من إنبعاث مادة الـDioxine الأكثر تلوثاً، والتي لا يملك لبنان حتى القدرة على فحصها ولا مختبرات لقياس نسبتها لأنها ملوثة جداً وسامّة وتؤدي إلى أمراض عديدة. فبمجرد حرق البلاستيك تصدر هذه المادة من مداخن المعمل".

الحرق وسيلة... ولكن ضمن شروط

البروفيسور في الجامعة اللبنانية والمتخصص بشؤون البيئة، الدكتور أنطوان سمراني، يعتبر أن "المعايير الكيميائية والطرق الخاصة بتلف الادوية ليست موجودة لدينا في لبنان"، مشيراً إلى أن "الأدوية أنواع: فمنها الصلب، ومنها السائل، وأغلبها من المواد العضوية، وهي تكون مكوّنة في بعض الأحيان من السموم للقضاء على مشكلة معيّنة، وبالتالي فعند تحللها، تؤدي طبعاً إلى آثار سلبية. إلا أن هذه الآثار يمكن للطبيعة أن تحاربها إذا لم تكن بكميات كبيرة. فيجدر أولا اللجوء إلى الطرق الكيميائية وعندما نعجز عن حلها بهذه الطرق نلجأ إلى الحرق"، معتبراً ان "الحرق ليس طريقة خاطئة إذا تم وفق شروط". ورداً على سؤالنا عن حرق الأدوية مع موادها البلاستيكية، يقول: "هنا تتغير المسألة، فهذه المواد لدى حرقها، تنتج مواداً سامة"، داعياً إلى تشكيل لجنة من المراقبين من قبل نقابة الصيادلة وكل من وزارة الصحة ووزارة البيئة للكشف بشكل دوري على ما ينتج عن هذا الحرق وللتأكد من احترام الشركة للشروط الدولية وعدم الإتكال فقط على التقرير الصادر عنها.

ويعتبر أنه لا يجب الجزم بأن حرق الأدوية يشكل حتماً مشكلة، إلا أن هنالك احتمالا كبيرا جداً بذلك، ومن هنا ضرورة المتابعة بشكل دقيق.

ويعتبر أن ثلاثة أمور يجب اخذها بعين الإعتبار: أولاً، إجراء لائحة بالأدوية التي ستتلف لكي نعرف مضمونها وشروط تلفها الصحيحة. ثانياً، تحديد الحرارة التي على أساسها سيتم التلف، والتي لا يجب أن تقلّ عن 1400 درجة. ثالثاً، تحديد كيفية الحرق: مع أو دون العلبة... إلخ.

تشكيك بمعايير دراسة اختبار الأثر البيئي

ووفق دراسة اختبار الأثر البيئي التي أجرتها شركة "أباف" العالمية، والتي تمت على مدة 3 أيام جرى خلالها اختبار الإنبعاثات الهوائية بعد حرق الأدوية في الـ"هولسيم" قبل أن يتم الموافقة على ذلك من قبل وزارة البيئة، فإن الملوثات لا تختلف كثيراً بين حرق الأدوية وعدم حرقها. وهذا ما أكده بيان صادر عن شركة "هولسيم" في 13 آذار الماضي. إلا أن "النشرة"، التي حصلت على نسخة من الدراسة، لاحظت أن نسبة مادة الـ"أرسينيك" تضاعفت بعد حرق الأدوية، وهذه المادة هي مادة سامّة جداً كان يتم استخدامها عبر التاريخ للإنتحار.

فيقال أنه مع وبدون أدوية، المسألة هي هي، ولكن ماذا عن الـ"أرسينيك"؟

في هذا الإطار يؤكد سمراني أنها مادة سامة جداً، موضحاً أن نسبتها في المياه يجب أن تكون صفر، وفقاً للمعايير الدولية.

أما رئيس هيئة حماية البيئية في شكا بيار أبي شاهين فيؤكد أن "ما من شيء سيمنع السموم من الإنتشار بعد حرق الأدوية في مصنع الإسمنت"، كاشفاً أن "صوتنا قد وصل إلى الأمم المتحدة، حيث حصلنا على وعود من "كوبنهاغن" بأن وفداً من الأمم المتحدة سيأتي إلى شكا ليرى الوضع السيء الذي وصلت إليه المنطقة". ويقول: "وصل صوتنا إلى الأمم المتحدة ولم يسمع أحد في لبنان صرختنا بعد!"

ويتخوف أبي شاهين من تحلل الزئبق الموجود في بعض الأدوية ودخوله في الإسمنت المصنّع، وحينها ستتعلق المسألة بكل لبنان وبكل منزل يستخدم هذا الإسمنت، مطالباً "هولسيم" بنشر نتائج تحليلية عن الإسمنت المنتج بعد حرق الأدوية. ولكن، تجدر الإشارة إلى أن الشركة أكدت في بيانها أن حرق الأدوية لن يؤثر أبداً على نوعية المنتج.

وتؤكد الشركة في بيانها أيضاً أن هذا القرار الذي اتخذته وزارة البيئة "يسمح لها بأن تستخدم كل خبراتها ومعداتها في سبيل تسهيل عملية التخلص من الأدوية غير الصالحة للإستهلاك دون أن يؤثر ذلك على الإنبعاثات الجوية أو على نوعية منتوجاتها"، مشيرة إلى أن "هذا الترخيص يجدد سنوياً، تكون هولسيم خلالها مكاناً للتخلص من الأدوية التي تجمعها وزارة الصحة من كل لبنان".

أحد الموظفين في وزارة البيئة الذي كان يعمل على هذا الموضوع يؤكد أن "هناك آلية معتمدة من قبل وزارة البيئة ولن يتم الحرق "كيف ما كان"، فأدوية السرطان مثلاً لن تحرق". إلا أن المصدر المطلع يشكك بهذا الأمر "لأن ارتفاع نسبة "الأرسينيك" سببه حرق أدوية السرطان التي تحتوي على هذه المادة". وقد حاولنا الوصول إلى هذه الآلية إلا أننا لم نلق جوابا، علماً أنها يجب أن تعمم وأن تكون شفّافة أمام كل من يريد الإطلاع عليها.

وهنا يقول أبي شاهين: "وكأن شكا لا يكفيها الذي فيها، فنأتي لنضيف على مشاكلها البيئية مشكلة جديدة"، مشدداً على أن هذه المنطقة "منكوبة بيئياً وأهلها يموتون من التلوث".

وبالنسبة لهذه الدراسة، تنتقد مصادر "النشرة" الطريقة التي اعتمدتها شركة "أباف" لتحليل العينات، إذ إن هناك طرقا عالمية، خصوصاً لمادة "الأرسينيك" بينما قد استخدمت الشركة طريقة داخلية معتمدة فقط لديها في هذا الصدد.

وتشير المصادر إلى أن الشركة اعتمدت لتحليل الزئبق الطريقة الأوروبية، أما لسائر المواد فاستخدمت طريقتها الخاصة، علماً أن طريقة التحليل تؤثر على النتائج، مستغربة أن تقوم هذه الشركة بذلك خصوصاً وأن مادة "الأرسينيك" المعروفة منذ زمن طويل و"لديها سلسلة من المواصفات والمقاييس لدراستها عالمياً، وفي أسوأ الأحوال أوروبيا، وفي اسوأ الأحوال سويسرياً. وهذا مستغرب".

وتعتبر المصادر أن ذلك يؤكد أن "طريقة التوصل إلى القرار في وزارة البيئة لم يكن سليماً علمياً".

اتحاد بلديات الكورة "لا علم له بشيء"

وكشفت معلومات لـ"النشرة" أن "وزارة البيئة أبعدت عن هذا الموضوع أهم الخبراء لديها في علم الكيمياء وعلم السموم، فلم يطلعوا على الدراسة ولم يتابعوا هذا الموضوع، معتمدة فقط على موظفين آخرين لا خبرة كافية لهم للتعاطي مع موضوع كهذا وبهذه الحساسية".

وتجدر الإشارة إلى أنه، وبحسب المعلومات، فإنها ليست المرة الأولى التي يحصل فيها هذا الإستبعاد، إذ تم أيضاً عندما أرسل وزير البيئة مهندساً للتحقق من تلوث نهر بيروت عندما أصبح لونه أحمر، وحتى تاريخه لم تصدر نتائج واضحة، وهذا لأن طريقة أخذ العينات كانت خاطئة، وبالتالي عجزت مختبرات الجامعة الأميركية عن تحليلها.

أبي شاهين ينتقد "التعتيم" الذي يجري على هذا الملف، واصفاً إياه بـ"المخيف"، فيما يؤكد رئيس إتحاد بلديات الكورة كريم بوكريم في اتصال أجرته "النشرة" معه عدم علمه بما آلت إليه الأمور في نهاية المطاف. ويقول: "تمت دعوتنا إلى اجتماع في وزارة البيئة منذ فترة طويلة، وتحدثنا عن هذا الموضوع بحضور شركة "هولسيم"، واتفقنا على أن نبقى على تواصل لمعرفة نتائج الدراسة التي كان من المقرر إعدادها والتي على أساسها كانت ستتم الموافقة أو عدمها على حرق الأدوية في المصنع. وعند عودتي إلى منطقة الكورة، أرسلت بريداً إلكترونياً إلى الوزارة وأجابوني، وانقطع التواصل بيننا فجأة، ولم يخبروني بشيء، ولا بنتيجة الفحص الذي جرى، ولا أعرف ما إذا بدأ العمل بحرق الأدوية أو لا لكي أحتج أو لكي أقوم بأي خطوة". ويرى أنه "لأمر معيب أن تتصرف الوزارات في لبنان بهذه الطريقة"، مشدداً على أن "المسألة من أساسها "غلط بغلط"، فخلال إجتماعنا، تم تغييب مدير عام وزارة البيئة الذي لم يكن حاضراً ولم يكن على علم حتى بالإجتماع. فهل هذا معقول؟ فالوزير يرحل ويأتي غيره، وكذلك مستشاروه، أما المدير العام فهو استمرارية للوزارة".

من جهته، نقل أبي شاهين عن رؤساء البلديات المعنيين قولهم له أنهم "خدعوا لأن الوزارة وعدتهم بالإجتماع الذي عقد أنها ستطلعهم على نتائج الدراسة قبل صدور أي قرار وحينها إما يوقعون عليه أو يرفضون، وهم ما زالوا حتى الآن بانتظار الإتصال الهاتفي"، مؤكداً أنهم "سيتصلون بالوزارة في الأيام القليلة المقبلة وسيطالبونها بتوضيح الأمور ونشر التقرير".

القرار اتخذ اليوم... ولكنّ المعنيين بشؤون البيئة في الشمال يعدون بمتابعة الملف حتى النهاية، لكي لا تضيع صحة المواطنين بين مصالح التجار والصناعيين.