عند مجيئك اليها، قاصداً سهلها وواديها، لا بد لك أينما كنت، أن تتوقف من بعيد للحظات ودقائق، ربما لأكثر، لتتأمل هذه الإمرأة الجميلة، المشرقة... العذراء مريم سيدة زحلة والبقاع.
حاملة الطفل الإلهي مباركاً شعبه ومدينته وسهله. العذراء مريم الشفيعة، الحنونة، المعزية، الشافية، الحامية، كما هي في قلب كل مسيحي، هي في قلب كل زحلي، يزورها يومياً، يطلب بركتها وشفاعتها، يناجيها، يتكلم اليها ومعها، يكرمها دائما، في كل وقت، ومكان. فيندر أن تدخل بيتاً زحلياً ولا تجد لسيدتها في صدره صورة، وهي الحاضرة دوماً مع أبنائها في وقت السلم كما وقت الحرب، لتصبح العلاقة بين الإنسان الزحلي ومريم، علاقة الأم بإبنها، تتخطى الزمان والمكان لتنتهي الى الوجود والكينونة.
هي القلب النابض بحنانه لزحلة وعينها الساهرة، والمصغية لكل هم وتضرع وصلاة، وعندما تسأل عن هوية زحلة سيجيبونك وبدون تردد: إنها مريم سيدة زحلة والبقاع.
بعد مفاوضات طويلة...
عام 1958، تنادى راعي أبرشية زحلة للروم الملكيين الكاثوليك المطران أفتيموس يواكيم مع الفعاليات الزحلية والجمعيات الخيرية والأخويات، كي يسلموا المدينة وسهل بقاعها لحماية السيدة العذراء، وكان ذلك في التاسع من آذار، وتتالت الإجتماعات للبحث عن تلة عالية تشرف على المدينة ويعلوها تمثال للسيدة العذراء. حتى وقع الخيار على قطعة أرض يملكها السيد حبيب سرور تطل على زحلة والبقاع، وبعد مفاوضات طويلة مع الورثة تم الحصول على الأرض، لتبدأ المرحلة الثانية هي مرحلة البناء وصنع التمثال. وبعد مشاورات ودراسات عديدة تم الإتفاق مع النحات الايطالي (بياروتي) الذي حضر الى لبنان وأجمع مع القيمين على المشروع وتدارس طبيعة وهوية المنطقة ومميزاتها. وبدأ العمل، ويروى عن المطران الراحل الذي سافر خصيصاً الى ايطاليا بضع مرات لمتابعة سير العمل قوله "سوف ترون السيدة العذراء حاملة على ساعديها طفلها الإلهي، وبيمينها عنقود عنب فيما الطفل الإلهي يمسك بشماله ثلاث سنابل قمح ويبارك المدينة بيمينه..."
ويوم 3 تشرين الثاني 1963 زحفت زحلة والبقاع الى منطقة ضهر البيدر، لإستقباله، فدخل على وقع الزغاريد وقرع الأجراس ونثر الورود.
وبعد ذلك بدأ العمل ببناء الكنيسة والبرج، وبلغت مساحة الكنيسة 450 م.م وارتفاعها عن الأرض 12 م، والبرج الذي عليها بلغ ارتفاعه 54 م. وبلغ طول تمثال السيدة العذراء تسعة أمتار ووزنه سبعة أطنان ونصف، وصنع من معدن البرونز.
ويوم الأحد في 8 أيلول 1968 بدأت حشود المؤمنين تتوافد الى مقام سيدة زحلة والبقاع وتم التدشين من قبل البطريرك مكسيموس الخامس حكيم.
الأبعاد الروحية لمقام سيدة زحلة والبقاع
لهذا المقام أبعاد كبيرة بالنسبة للبقاع. فعلاوة على البعد المادي والحّي الذي يربط ابن زحلة والبقاع بارضه وعمله، من خلال زراعة الكرمة والحنطة، يشكل هذا المقام انعكاسا للبعد الروحي الكبير لأبناء المنطقة، وعربون شكر من قبلهم إلى الله الخالق. وهو أيضاً بيت صلاة وتأمل ومصالحة: فعند الدخول الى المقام المقدس، لا بد لنا من التوقف عند وجوه المؤمنين، على اختلاف أعمارهم وطوائفهم، وكيف يصلون بخشوع وإجلال ولإكرام السيدة العذراء طالبين حمايتها وشفاعتها عائدين الى المصالحة مع ذواتهم عبر سر الإعتراف الذي يؤمنه كهنة المقام على مدار الساعة. فمن يقصد مقام سيدة زحلة والبقاع يدرك جيداً أنه يستطيع أن يتغير بفضل نعمة الله وشفاعة العذراء مريم، نعمة المصالحة والعودة وغفران الخطايا.
وبالإضافة إلى ذلك، فهو بيت الجميع: العذراء مريم هي أم الجميع، حمايتها تعطى للكل، لكل من يطلب ويلتمس، فلا يبدو مستغرباً هذا التقاطر للزيارة والصلاة، من كافة الطوائف والأديان من دون تفرقة أو تمييز.
هذا المزار هو المحج والمنارة لكل زحلي وبقاعي، فمن خلال العذراء مريم ننشد الطريق الى يسوع المسيح، وما هو سوى واحة للصلاة يرتاح فيها كل إنسان ينشد الصلاة والتأمل.
لأنّ ما يشهده مقام سيدة زحلة والبقاع من عشرات الآلاف من الزيارات سنوياً، وخاصة خلال شهر أيار من كل عام للسياح اللبنانيين والعرب والأجانب جعل منه محجاً يقصده المؤمنون للتبارك، فما من زائر الى مدينة زحلة يقصد مقاهي البردوني أو غيرها من المعالم السياحية في المدينة إلا ويتجه لزيارة مقام سيدة زحلة والبقاع لإن إسم زحلة ارتبط باسم هذا المقام فأضحى دليلاً واضحاً للمدينة فعندما تسأل عن زحلة كأنك تسأل عن سيدتها ومقامها على رأس تلك التلة المطلّة.
* للاطلاع على ألبوم الصور اضغط هنا
هذا الموضوع هو الجزء السادس من سلسلة السياحة الدينية التي تعرضها "النشرة" تحت شعار "لبنان أكثر من ترفيه.. إنه بلد السياحة الدينية أيضا". وفي الأجزاء السابقة:
الجزء الأول - المسجد المنصوري الكبير في طرابلس: موقع ديني وأهمية تاريخية
الجزء الثاني - مقام النبي جليل في "الشرقية" الجنوبية مزار ديني وقيمة تراثية وأثرية
الجزء الثالث - دير مار أنطونيوس في النبطية: أكثر من قرن على الشهادة للعيش المشترك
الجزء الرابع - مسجد "طينال" الأثري لا يزوره السواح "لأسباب أمنية" والحاجة ماسّة إلى ترميمه
الجزء الخامس - كنيسة سيّدة الزلزلة العجائبية في زحلة: موقع ديني مهم حمى أبناء المدينة على مرّ العصور