ليست الرحلة إلى العراق عمومًا والنجف خصوصًا عادية، ولا يمكنها أن تكون كذلك.
أياً كان عنوان هذه الرحلة وهدفها، يبقى أنّ لها "رهبة" لا تضاهيها "رهبة"، "رهبة" تغري جميع الزائرين وتغطي على حسّ "المغامرة" بالنسبة للبعض، أقله من الناحية الأمنية.
وفي النجف، حطّت "النشرة" بدعوةٍ من العتبة العلوية المقدّسة، عنوانها مواكبة مهرجان "الغدير العالمي الثالث"، ولكن بمضمونٍ أكبر، مضمونٍ يحاكي شعباً تحدّى كلّ الصعاب والمحن وأصرّ على الصمود والمقاومة، ولو على طريقته..
المؤامرة واقعٌ وأكثر..
منذ سنواتٍ طويلة، والعراق ينزف. ما مرّ به لم يمرّ به أحد، هو الذي يقول البعض أنه كان باكورة ما يُسمّى بـ"الربيع العربي" الذي تحوّل إلى "خريف". انتفاضته ضدّ الحكم الديكتاتوري كلفته غاليًا، هي التي كانت "ذريعة" لحربٍ غربيةٍ لم تنتهِ فصولها بعد.
في التحليل السياسي والعسكري، يُقال الكثير عن أسباب هذه الحرب وتداعياتها، وكذلك عن العوامل التي أدّت إلى انسحاب القوات الأجنبية ولا سيما الأميركية، مُجبرة لا بطلة، من أرض العراق، بعدما حوّلتها إلى رماد، دون أن ننسى مشروع الشرق الأوسط الجديد والدمار والفوضى الذي يسعى البعض لتوسيعه ليشمل المنطقة بأسرها، لغاياتٍ لم تعد خافية على أحد.
ولكن المشهد على الأرض يقول أكثر من ذلك. يقول أنّ "المؤامرة" هنا لا يمكن أن تكون مجرّد عبارة إنشائية مثيرة للجدل وربما السخرية. هي واقعٌ مرّ، واقعٌ فرضه اللاعبون الكبار، الذين أبوا إلا أن يلعبوا بكلّ مقدرات العراق منذ وضعوا عينهم عليه، وسط صمت عربي فاقع كالعادة.
ويقول أنّ دولة نفطية مثل العراق تكاد تفتقر إلى الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم، بل إنّ عملتها ضعيفة، واقتصادها يمرّ بوضعٍ حرج وقد بات بنظر كثيرين على حافة الانهيار، ناهيك عن الأوضاع السياسية المتوترة دومًا، والأمنية المتردّية.
مدينة أمير المؤمنين..
وحدها السياحة الدينية تنهض بالنجف، بوصفها مدينة مقدّسة بكلّ ما للكلمة من معنى. المسؤولون المحليون في المحافظة لا ينكرون هذا الانطباع، الذي يتجلى أصلاً منذ لحظة هبوط الطائرة قادمة من بيروت (أو غيرها). "أهلاً بكم إلى مدينة أمير المؤمنين"، تقول المضيفة، لترتفع صيحات التكبير والدعاء من ركّابٍ يأتون بمعظمهم ضمن حملاتٍ لزيارة العتبات المقدّسة، واضعين كلّ الأخطار الأمنية وراء ظهورهم.
هي مدينة أمير المؤمنين إذًا، التي تحتضن مقام الإمام علي عليه السلام، ابن عمّ رسول الإسلام النبي محمد، أول أئمة المسلمين الشيعة ورابع الخلفاء الراشدين عند السنّة، الإمام الذي يتفق جميع المسلمين على أبعاد شخصيته التي تتجاوز كلّ الأفكار والمذاهب، كيف لا وهو الإنسان الثائر الذي يتميز بالفصاحة والحكمة، وهو الذي يُعدّ رمزاً للشجاعة والقوّة ويتّصف بالعدل والزُهد، كما يُعتبر من أكبر العلماء في عصره علماً وفقهاً إنْ لم يكن أكبرهم على الإطلاق.
مشاريع عمرانية بالجملة
وإلى مقام أمير المؤمنين، اتجهت "النشرة"، ليبدو المشهد معبّرًا. هنا، الرهبة مختلفة، والخشوع سيّد الموقف. إلى هنا، يأتي المؤمنون من كلّ أصقاع الأرض ليزوروا الإمام ويتوجّهوا بدعاءٍ صادقٍ وخالصٍ إلى الله، علمًا أنّ لهذه الزيارة فضلاً روحيًا ومعنويًا كبيرًا، وهو ما يؤكده قولٌ منقول عن الإمام الصادق لإبن مارد: "يا إبن مارد، من زار جدي عارفاً بحقه كتب الله له بكلّ خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة، والله يا ابن مارد ما يطعم الله النار قدماً اغبرّت في زيارة أمير المؤمنين، ماشيًا كان أو راكبًا".
ولعلّ المفارقة البارزة التي لا يمكن للمرء إلا أن يلاحظها في هذا المقام هي الزحمة الشديدة التي تُسجَّل داخله في كلّ الأوقات، وحتى في ساعات الفجر، حتى يكاد البعض لا يجد مكاناً للصلاة والعبادة أو قراءة الدعاء، علمًا أنّ مشاريع عمرانية بالجملة مرسومة للمقام وبعضها نُفّذ، كما يكشف أحد أعضاء العتبة العلوية، الذي يتحدّث عن المباشرة بتصاميم المدينة الإعلامية وبتصاميم التوسعة لمسافة 90 متر حول الصحن الشريف وقد أوشكت على الانتهاء، في حين أنّ مشاريع أخرى في طور الإحالة ومنها مشروع دار التبليغ العلوي ومشروع مركز الإمام للدراسات التراثية والحضارية.
ومن الأهداف الموضوعة الحفاظ على المبنى الحالي للعتبة (الحضرة والصحن الشريف) وصيانته وترميمه بشكل مستمرّ وعدم إجراء أيّ تغييرات جوهرية تمسّ وضعه، مع توسعة الصحن الشريف بإضافة مساحات ملاصقة للصحن الحالي تخدم فروض العبادة ومراسم الزيارة، إضافة إلى توفير أماكن لاستراحة ومبيت الزائرين، وأخرى للدراسات الحوزوية، إنشاء أبنية تخدم الفعاليات الثقافية والعلمية والإنسانية.
الإمام هو الذي يحمينا..
على الصعيد الأمني، قد تكون النجف أكثر أمانًا من غيرها من المدن العراقية، ويرجع آخر تفجيرٍ وقع فيها إلى العام 2013، حين تمّ استهداف حافلة للزوار وسط حيّ شعبي على مقربة من مرقد الإمام علي، في وقتٍ تحيط بها الشائعات من كلّ جانب، وآخرها قبل أيام عن انفجار سيارة مفخخة نفاه رئيس اللجنة الأمنية في المحافظة، تزامنًا مع تسريباتٍ عن تفكيك قنابل هنا وتهديدات بعمليات خطف هناك.
تبرز هذه التهديدات في المدينة من خلال الإجراءات الأمنية المتخذة، والحواجز المنتشرة على مختلف مداخلها، حيث تخضع السيارات للتفتيش الدقيق. إلا أنّ هذه الإجراءات، برأي المعنيين، غير كافية، وهي لا تقارَن مثلاً بالإجراءات المتخذة في الضاحية الجنوبية لبيروت. يقول أحد هؤلاء لـ"النشرة" أنّ هناك عطفًا إلهيًا يمنع الخروق، قبل أن يردف: "المفترض أننا من يحمي مرقد الإمام، لكنّ الواقع أنّ الإمام هو الذي يحمينا. سبحان الله".
كلنا في خدمة الأمير..
على الخط نفسه، تبرز حماسة لدى شباب العتبة العلوية. تُروى في هذا الإطار قصصٌ عن البعض منهم من أصحاب المناصب الذين لا يتردّدون في "خدمة" زوار الإمام، وخصوصًا في مضيفه. "كلنا في خدمة الأمير"، يقول أحدهم بكلّ فخرٍ، مضيفًا: "أن نخدم زوار الأمير برموش عيوننا هو خدمة لأنفسنا قبل أيّ شيء، نأمل أن نستحقها عن جدارة".
هي صورة مختلفة لإسلامٍ لا يزال ينبض بالحياة، لمسلمين يتمسّكون بجوهر دينهم، ويصرّون على مواجهة كلّ الفظائع التي تُرتَكَب بحقه، صورة يحاول الإرهاب حجبها وإلغاءها، وقد ينجح إذا لم يتحد هؤلاء ويقفوا سدًا منيعًا في وجهها قبل فوات الأوان..