تتلاحق التطورات الأمنية في عدة بلدان أجنبية مستهدفة من قبل "داعش"، وبدأت الدول تنضمّ تباعاً الى حملات القصف الجوي على مواقع هذا التنظيم الإرهابي، حتى تلك التي لم تحصل فيها عمليات بعد مثل بلجيكا وألمانيا وبريطانيا بدأت تتحرك لأنها ادركت ان دورها آت لا محالة، ويبدو أن نتيجة التحقيق في هجوم كاليفورنيا الأخير بدأت تتجه الى ربط الزوجين المُسلمين اللذين نفذا الهجوم بعلاقة ما مع "داعش"، وهذا ما توحي به دعوة الرئيس الأميركي باراك اوباما الى انعقاد فريق الأمن القومي الأميركي لبحث الهجوم، إذ لو كانت دوافعه شخصية أو من سلسلة حوادث القتل الجماعي الدورية في الولايات المتحدة لما استوجب عقد هذا الإجتماع.
أصبح من الواضح أن الأميركيين كانوا يحاولون الإستفادة قدر الإمكان من إدارة التوحش وتوجيهه نحو المحور المعادي، ولكن عندما تفلت كلبًا مسعوراً على اعدائك فأنت لا تملك ضمانة أن لا يرتدّ اليك وينهشك، وهذا ما حصل مع فرنسا، وسيحصل مع غيرها.
ولكن ماذا يمكن أن يفعل الحلف الأطلسي أكثر ممّا فعل حتى الآن تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن ضرورة ارسال قوات عربية وسورية للحرب البرية مع "داعش"، وتصريحات السيناتور جون ماكين الغريبة عن مئات الاف الجنود العرب للقيام بالمهمة على الأرض، التي تبدو خارج السياق المنطقي؟!"
هناك سؤال يفرض نفسه، لماذا أو بالأحرى ما الذي أفقد الولايات المتحدة شهيتها على التدخل العسكري المباشر، وهي التي لم تنتظر إذناً من احد لإجتياح افغانستان وبعدها العراق؟
لا شكّ أنّ الأميركيين أدركوا الثمن الباهظ الذي سيدفعونه في الحرب البرية ضدّ "داعش"، ففضّلوا البحث عن وكيل لا يبدو انه سيتوفر بسهولة.
من يقدر على حرب داعش؟
من اول بديهيات العلم العسكري دراسة العدو جيدا قبل بدء المعركة، ودراسة جوانب عدة تشمل إضافة الى العديد ونوعية العتاد، العقيدة القتالية له وتجاربه السابقة.
تختلف خبرة "داعش" التراكمية عمّا كانت عليه لدى "القاعدة" و"طالبان" في افغانستان، كما تختلف طبيعة الميدان، ففي افغانستان اضطرت "طالبان" للخروج من المدن بالسلاح المحمول الى الجبال، وإعتمدت حرب العصابات من هجمات كر وفر، وقطع طرق، وتفجيرات متنقلة. وبعد سنوات عديدة من فقدان سيطرتها المركزية على المدن، وفي الوقت الذي انسحبت أو كادت قوى التحالف تسحب قواتها نهائياً، عادت "طالبان" لاحتلال مدن ومناطق عدة دون قدرة للجيش الإفغاني الجديد على استعادة أي منطقة دون دعم جوي غربي.
اما في التجربة العراقية فقد اجتاحت قوات بسيطة من "داعش" محافظات بأسرها، وكادت تدخل العاصمة بغداد تحت وطأة الرعب الذي كان يسير بين يديها. ولم يتمكن الجيش العراقي المدجج بالسلاح من الصمود ولو ساعات، والأنكى أنه انسحب تاركاً مئات الدبابات والآليات والأسلحة الأميركية الحديثة التي اسهمت بتأسيس نواة الجيش الداعشي. هنا كانت ارادة القتال هي التي تتحكم بمجريات المعركة، فمقابل جيش مهزوم نفسياً والذي تذكر التقارير الفنية أن تعداد من انسحب تكتيكياً أو هرب تقدر بخمسين الف جندي وضابط، نجد مجموعة لم تتعدَّ 1500 عنصر من "داعش"، كل منهم مستعد للقتال حتى الموت، إجتاحت الموصل والرمادي وصلاح الدين مصحوبة بحاضنة شعبية استقبلتهم استقبال المحررين الأبطال، قبل أن تدرك هذه الحاضنة فداحة ما اقترفته بموقفها هذا.
وفي سوريا حيث اختمرت التجربة القتالية جيداً، نجد أيضاً أن ظهور "داعش" ولاحقاً "النصرة" قلب موازين الحرب وبدأ النظام للمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة يفقد السيطرة على مدن كبيرة بل محافظات بأسرها، بفعل هجمات صاعقة شنها المقاتلون التكفيريون مدعّمين بأساليب مبتكرة حيث تبدأ هجومها بعدة سيارات مفخخة تكسر الخط الدفاعي الأول يليها مقاتلون انغماسيون يتسللون الى صفوف العدو ويباغتونه بطريقة لا يمكن لعسكري نظامي عاقل أن ينفذها لأن احتمالات القتل فيها عالية، وهذه ايضاً يمكن تصنيفها بالعمليات الإنتحارية، لأن نسبة النجاة فيها ضئيلة.
قتال حتى الموت
إذاً فقتال التكفيريين حتى الموت يعود الى عاملين:
1- اليقين بالوعد بالجنة ولقاء الرسول.
2- حرمة الفرار من الزحف في الشريعة الإسلامية، وعاقبتها النار، وقد وردت واضحة في آية قرآنية لا لبس فيها وهي: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّـهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (سورة الأنفال).
ولم يستطع الإنتصار على التكفيريين ودحرهم الا مقاتلين ذوي دوافع دينية، مثل "حزب الله" في سوريا، والحشد الشعبي في العراق، أو مقاتلين قريبين منهم عقائدياً كـ"جبهة النصرة" و"احرار الشام".
وما يعزز هذه النجاحات العسكرية لـ"داعش"، قرارات الإنسحاب التي يتخذها كبار الضباط الميدانيين، الذين يقيّمون الموقف بحسابات الربح والخسارة، والتي تأخذ في الإعتبار الكلفة العالية لإمكانية صد الهجوم، وكذلك الإحتمالية العالية لقطع طريق الإنسحاب بفعل سهولة تحرك مجموعات الارهابيين في الأرياف. عندها يختار الضابط المسؤول الحفاظ على حياة جنوده وعتاده الأساسي وإعادة التموضع. وهكذا سقطت الرقّة ومعظم دير الزور وإدلب وتدمر، وغيرها. ولنا أن نقارن بين سهولة سقوط هذه المدن سالمة تقريباً، وسقوط معاقل المسلحين في بابا عمرو، والقصير، والزبداني مؤخراً حيث دمرت بشكل شبه كامل، ولم ينجُ بيتٌ واحدٌ في هذه المناطق من التدمير الكلي أو الجزئي، لأن القتال كان من بيت الى بيت حرفياً.
ولنا ان نلاحظ أن الأماكن التي استبسل فيها الجيش السوري في القتال كانت في المواقع المحاصرة، حيث لعبت وحشية التكفيريين تجاه الأسرى دوراً ايجابياً في صمود الجندي السوري لعلمه بمصيره في حال الإستسلام وهو القتل بأبشع الطرق، وهذا ما وجدناه في حصارات مستشفى الكندي، والسجن المركزي ومطار كويرس ومطار منغ في حلب، ومطار دير الزور، فالقاسم المشترك في جميع هذه المواقع كان الحصار.
بالمقابل، وفي قراءة للهزائم التي لحقت بـ"داعش" والتكفيريين، نلحظ أن كل هذه المعارك كان لقوات "حزب الله" الدور الأساس فيها. كما أنه وللتأكيد على ما وصلنا إليه في استنتاجنا، هناك تساؤل مشروع عن سر صمود كفريا والفوعة في ادلب، ونبل والزهراء في حلب، لسنوات رغم حصارها من كل الجهات وعلى عمق عشرات الكيلومترات . والجواب محرج شيئاً ما، وهو لأن سكانها من الشيعة ولأن لـ"حزب الله" في كل منها عشرات المقاتلين الذين تمكنوا من تشكيل لجان شعبية من أهل هذه القرى ويشاركونهم المعاناة والتصدي للحصار.
كيف تُحسَم المعركة؟
نصل الى النتيجة التي نتشارك بإستخلاصها مع المحللين العسكريين الأميركيين، الذين يقفون وراء تصريحات كيري وماكين:
- لا يمكن لسلاح الجو بمفرده أن يحسم المعركة مع المقاتلين التكفيريين.
- لم يتمكن الجيش السوري ورغم تفوقه الجوي من الحيلولة دون سقوط المدن والقرى بسهولة في ايدي التكفيريين. وهذا ما سيحصل مع اي جيش اجنبي أو عربي ينزل الى المعركة البرية. وهم بالتأكيد لا يرتقون الى مستوى صلابة الجندي السوري وقدرته على الاحتمال.
- الطريقة الوحيدة المتاحة للغربيين للإنتصار على التكفيريين، تنحصر في تدمير معاقلهم بشكل شبه كامل كما حصل في معركة كوباني (عين العرب)، ومعركة سنجارالأخيرة حيث أعقب القصف التدميري دخول قوات البيشمركة الأكراد. هذا بالرغم من أن المقاتلين التكفيريين لا يمكن ضمان عدم إعادة سيطرتهم على المناطق التي خسروها أكثر من مرة كما حصل في كوباني (عين العرب) وقراها.
لذا نحن امام حرب طاحنة ستأتي على ما تبقى من مدن وقرى تحت سيطرة التكفيريين، والذين لن يتركوها الا رميماً. وهذا ثمن باهظ جداً يصعب تحمله رغم ضرورته الحيوية.