كما ذكرنا في أكثر من مقال سابق، إنّ الشواهد التاريخيّة للحروب تُثبت مرور هذه الأخيرة بفترات هدوء يجري فيها العمل على تسوية معيّنة وفق موازين القوى القائمة، وفي حال التعثر تعود الكلمة للسلاح وللميدان. وعلى الرغم من كل ما أشيع في الأشهر القليلة الماضية بأنّ الحرب السوريّة إنتهت، وبأن مُفاوضات جنيف ستفضي إلى إيجاد خريطة طريق للحل، تدلّ كل الوقائع السياسيّة والعسكريّة الحاليّة على أنّ هذا التوقّع في طريقه إلى السقوط، وأنّ الكلمة ستكون في المُستقبل القريب للسلاح من جديد. فما الذي سيحصل؟
بداية، لا بُد من الإشارة إلى أنّ أسس مفاوضات جنيف في جولاتها الأخيرة لم تعد متوازنة كما كانت في بداية هذه الجولات منذ سنوات، والسبب تغييرات كبيرة سياسيّة وعسكريّة. فالجانب الروسي صار شبه متفرّد بطرح الحلول والإقتراحات، في ظلّ إنكفاء الجانب الأميركي، علمًا أنّ ضعف التأثير الأميركي سيزداد تصاعديًا في الأسابيع والأشهر القليلة المُقبلة نتيجة دُخول الإدارة الأميركيّة مرحلة الإنتخابات الرئاسية التي ستجري في تشرين الثاني 2016. وكانت قُدرة واشنطن على التأثير والضغط قد تلاشت أصلاً منذ توقيع الإتفاق النووي بين الغرب وإيران في تمّوز 2015، في حين أطلِقَت يد طهران أكثر فأكثر في سوريا وغيرها من الساحات العربيّة.
وبموازاة هذا الخلل الكبير على المُستوى السياسي، حصل خلل كبير أيضًا على صعيد موازين القوى على الأرض، بسبب الدعم العسكري الكبير الذي وفّرته روسيا للنظام السوري، والذي كان بدأ مع الدعم الإيراني-اللبناني من خلال وُصول وحدات مُقاتلة من "حزب الله" ومن فصائل أخرى مموّلة وموالية لطهران إلى سوريا، ولعبها دور "رأس الحربة" في الكثير من المعارك الحاسمة. وترافق هذا الأمر مع خلافات كبيرة في ما بين الدُول الداعمة لمجموعات "المُعارضة" السورية، وفي طليعتها قطر والسعودية وتركيا والأردن وغيرها، وأيضًا بين هذه الأخيرة والعديد من الفصائل المُقاتلة نفسها. وإكتمل الخلل مع حصر الولايات المتحدة الأميركيّة إهتمامها بمعركة القضاء على تنظيم "داعش" الإرهابي"، ومع تركيز تركيا إهتمامها بمعركة إضعاف الجماعات الكرديّة المُسلّحة على حُدودها.
وفي ظلّ هذا المشهد السياسي–العسكري غير المُتوازن بين النظام السوري من جهة والجماعات السورية المُعارضة من جهة أخرى، جرت على مدى أشهر مُحاولات لفرض تسوية تصبّ في صالح الرئيس السوري بشار الأسد، والقوى الداعمة له، إنطلاقاً من الموازين الحاليّة، الأمر الذي أسفر عن تعثّر المفاوضات، في ظلّ كلام مُتصاعد عن رفض الجهات المُعارضة العودة إلى مفاوضات جنيف من دون ضمانات بوقف الهجمات العسكرية، وبتأمين مرحلة إنتقالية للحكم في دمشق، وبالتكفّل بإخراج الرئيس الأسد من السلطة في نهاية المطاف. وبما أنّ لا مجال للقبول بأيّ من هذه الشروط المسبقة من جانب النظام السوري وداعميه، فإنّ فرص مُعاودة جولات التفاوض تبدو ضعيفة، على الرغم من المناشدات الأمميّة والضغوط الروسيّة في هذا الصدد.
واليوم وفي ظلّ هذا الواقع المُقفل، تبدو الأجواء مُهيّئة أكثر من أيّ وقت مضى لانفجار الأوضاع الأمنيّة من جديد، حيث يتوقّع أن يعمل الجيش السوري على تكثيف هجماته على ما تبقى من أرياف خارج سيطرته في اللاذقية وإدلب، وعلى إستكمال مُحاصرة المناطق الخارجة على سيطرته في حلب، لاعتقاده أنّ إستعادة هذه المدينة الحيويّة يعني تلقائيًا إخضاع كامل الشمال السوري، ويعني عمليًا فرض الحل السياسي بالقوّة العسكريّة، مع إنتفاء أيّ نقطة إرتكاز فعّالة للمعارضة السورية. والتقارير بشأن التحضيرات اللوجستيّة والعسكريّة التي يتخذها الجيش السوري وحلفاؤه لمعركة حلب كثيرة ومن مصادر متعدّدة، ما يعكس جدّية عالية في هذا الصدد، في إنتظار "ضوء أخضر" سينطلق ما أن يتمّ تأكيد إنهيار مفاوضات جنيف بشكل كامل وغير قابل للإصلاح في المدى المنظور.
في المُقابل، تُدرك المعارضة السورية أنّ سقوط حلب بيد النظام مُجدّدًا يعني فقدانها لخلفيّة الدعم اللوجستي الذي تتلقاه من تركيا، في ظلّ تقلّص باقي خُطوط الإمداد، خاصة من العراق والأردن إلى الحدود الدنيا، وبعد طيّ صفحة الإمداد اللوجستي من لبنان. وخروج حلب من سيطرة المعارضة يعني أيضًا، إضافة إلى وقعه المعنوي الكبير، إنحسار أماكن سيطرة "المعارضات" السوريّة المتعدّدة، ببقع جغرافية صغيرة ومشتّتة وتفتقر إلى الوزن العسكري الجدّي لها، باعتبار أنّ المساحات الجغرافية الواسعة الأخرى الخارجة عن سلطة النظام السوري هي بيد تنظيم "داعش" الذي يتقلّص نفوذه تدريجًا بفعل مُهاجمته من مختلف الأطراف المُتقاتلة أو العاملة على الساحة السورية. وانطلاقًا من إدراكها لمخاطر سقوط حلب، تستعدّ الجماعات المُسلّحة المناهضة للنظام السوري لمعركة حلب، عبر تنظيم الصفوف وحشد القوى وحفر الأنفاق. والكثير من التقارير تحدّثت عن وُصول مجموعات مُقاتلة جديدة من خارج الحدود، وعن تدريب مجموعات شبابيّة سوريّة لم تُشارك بعد في أيّ معارك. ولعلّ النقطة الأبرز التي ستُشكّل الكلمة الفصل في معركة حلب في حال إندلاعها، هي وُصول كميات كبيرة من الصواريخ المُضادة للدروع إلى يد الجماعات المُسلّحة، وكذلك كمية كبيرة من صواريخ أرض – جوّ التي تُطلق عن الكتف، بشكل سيجعل من مسألة إسقاط الطائرات المُغيرة، والتي إرتفعت وتيرتها بشكل ملموس أخيرًا، المفاجآت التي لطالما راهنت عليها الجماعات المُسلّحة السوريّة لسحب الغطاء الجوي من يد النظام السوري وحلفاؤه.
وفي الخلاصة، لا شكّ أنّ فرص عودة المعارك العنيفة إلى الميدان السوري هي أكبر اليوم من فرص تحقيق أيّ خرق في مفاوضات جنيف. والأكيد أنّ الأيّام المقبلة هي التي ستُحدّد وجهة الحرب السوريّة، من بوّابة الشمال السوري، وخُصوصًا من بوّابة معركة مدينة حلب...