في المبدأ، لم يكن مقدَّرًا للاستحقاق البلدي والاختياري أن يكون عاديًا، أقلّه بالنسبة لخصمي الأمس وحليفي اليوم، "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، هو الذي وُصِف بأنّه "الامتحان الجدّي" الأول لمتانة هذا التفاهم وترجمته على أرض الواقع.
ولكن، ولأنّ رياح الميدان لم تجرِ كما تشتهي السفن "العونية" و"القواتية" على حدّ سواء، فإنّ التفاهم "البلدي" بين الجانبين انتهى قبل أن يبدأ. ولعلّ خير دليلٍ على ذلك هو قضاء بعبدا الذي تتأهّب بلداته المختلفة لمعارك "حامية" يوم الأحد المقبل، معارك اختلط فيها "الحابل بالنابل"، وكان التفاهم هو الغائب الأكبر عنها.
الشياح تغرّد وحيدةً...
عشية انطلاق صافرة الانتخابات البلدية والاختيارية، كان "رهان" كلّ من "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" كبيراً عليها لقلب كلّ الموازين، خصوصًا في القرى والبلدات المسيحية. قيل أنّ هذا التحالف الطارئ على الحياة السياسية اللبنانية سيكون بمثابة "تسونامي"، وبالتالي سيجتاح الأخضر واليابس.
ووفق قاعدة "كلام الليل يمحوه النهار"، لم تتأخر "ساعة الجدّ" الانتخابية في "محو" كلّ كلامٍ صدر قبلها. سريعًا، اصطدمت "المفاوضات" التي دارت بين "التيار" و"القوات" بحيطانٍ مسدودة، حتى أنّ المناطق التي خاضا فيها المعركة بشكلٍ موحّد تكاد تكون محدودة على مستوى الوطن، بل إنّ الأخطر من ذلك أنّ كلّ فريقٍ انقسم على نفسه، في مفارقة لافتةٍ في الشكل والمضمون.
في قضاء بعبدا على سبيل المثال، يبدو التوافق في وادٍ، وخيارات الأحزاب في وادٍ آخر. وحدها الشياح تشذ عن هذه القاعدة، هي التي توصّل المعنيّون فيها إلى توافقٍ موسّع يشبّهه البعض بذلك الذي حصل في بيروت. ولكنّ ما أريد أن يكون "نموذجاً يُحتذى" في المناطق الأخرى، كما يقول عرّاب الاتفاق النائب ناجي غاريوس لـ"النشرة"، لم يكن كذلك، بعد أن تصاعد دخان المعركة في مناطق "الجوار".
"الطاسة ضايعة"؟!
وبعيدًا عن الشياح، لا تبدو الصورة ورديّة بأيّ شكلٍ من الأشكال. فأينما تنقّلت في مناطق قضاء بعبدا، وخصوصاً الساحلية منها، لا صوت يعلو على صوت المنافسة على الإطلاق، العونية القواتية من جهة والعونية العونية أو حتى القواتية القواتية من جهة ثانية. ولعلّ ما يزيد الأمور غموضاً ما يُحكى عن اتفاقٍ تمّ التوصّل إليه بين معراب والرابية ويقضي بعدم الدخول في "مواجهة مباشرة ومُعلَنة" في أيّ مكان، بمعنى أنّ "القوات" و"التيار" إما يخوضان المعركة بشكلٍ موحّد، وإما تحيّد "القيادة" نفسها عنها، فـ"تضيع الطاسة"، وهو الحاصل في أغلب البلدات.
في بلدةب الحدت على سبيل المثال، هناك لائحتان تخوضان المنافسة، الأولى يرأسها رئيس البلدية الحالي جورج عون وتضمّ 3 محازبين من "التيار"، فيما تضمّ الثانية تشكيلة من الأحزاب والعائلات بما فيها "التيار الوطني الحر"، الذي يتمثل فيها بستة محازبين. وعلى الرغم من أن لا قرار رسمياً من قيادة "التيار" بدعم أيّ من اللائحتين التزاماً بالاتفاق مع "القوات"، فإنّ اللائحة الأولى مدعومة من هيئة القضاء في "التيار" التي رفضت الوقوف على الحياد ومعها النواب "العونيّون"، ما يوحي وكأنّ اتفاق معراب-الرابية شيء واتفاق الهيئة مع النواب شيءٌ آخر.
ومن الحدت إلى الحازمية، تكرّر "السيناريو" نفسه، حيث فشلت كلّ المساعي التي بُذِلت في تجنيب البلدة المعركة، فانتهى الأمر بها بلائحتين متنافستين، بدا واضحًا تموضع كلّ من "التيار" و"القوات" المضاد إزاءهما، فكان الأول في مكان والثانية في مكان، ولو لم يصدر أيّ إعلان رسمي وواضح بهذا الصدد.
في اللائحة ومنافستها!
ويسري الأمر نفسه على مناطق القضاء الأخرى، ففي بلدة بعبدا حصل اختلاف بين الأهالي، وعلى الرغم من أنّ هيئة بعبدا في "التيار" اتخذت قراراً بالانخراط في لائحة أنطوان خوري حلو، إلا أنّ الخلاف وقع في ما بعد، ما دفع "التيار" لترك الحرية للناخبين للتصويت لمن يرغبون، من دون دعم اللائحة التي تشارك فيها "القوات"، خصوصًا أنّه يعتبر حيثيته في البلدة أكبر، علمًا أنّه ممثَّل فيها بمحازبٍ واحد، في حين أنّه ممثل بلائحة خوري بخمسة محازبين.
ولا يختلف الوضع في فرن الشباك، حيث تعثّرت المفاوضات أيضاً بين رئيس البلدية ريمون سمعان و"التيار" و"القوات"، فقرّر كلّ من الحزبين خوض المعركة مع منافسه شارل أبو حرب، قبل أن تتراجع "القوات" في اللحظة الأخيرة، ليصبح كلٌ من "التيار" و"القوات" ممثلين في اللائحتين المتنافستين، علمًا أنّ سمعان ضمّ إلى صفوف لائحته ابنة شقيق رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، ما أدّى إلى انقسام هيئة "التيار" بين اللائحتين.
وبالذهاب إلى الجبل صعوداً، تتكرّر الصورة نفسها، وتكاد حمانا تختصر وحدها الصورة، حيث بقي العميد طوني بو سمرا ينتظر الدعم "العوني" لتشكيل لائحته، قبل أن ينسحب من المعركة ويخلي الساحة من أجل تسهيل التوافق ومنعاً للشرذمة على ما يقول، علمًا أنّ الصورة الأخيرة للمشهد في حمانا رست على اعلان لائحة "حمانا هويتي" برئاسة بشير فرحات لثلاث سنوات، وفادي صليبي ثلاث سنوات اخرى، على ان تكون نيابة الرئيس من حصة سليم ابو كنج الكتائبي الذي حصد حزبه حصة لا بأس بها اسوة بمشاركة الحزبيين من "التيار الوطني" و "القوات" في اللائحة.
بعبدا فرّقتهم؟!
لا ينكر "العونيون" و"القواتيون" على حدّ سواء الحقيقة القائلة أنّ بلدات قضاء بعبدا "فرّقتهم" أكثر ممّا "جمعتهم". وإذا كانوا يردّون الأمر إلى خصوصية بلدات القضاء وطابع المعركة العائلي والإنمائي، فضلاً عن حرية الترشح الممنوحة للجميع، فإنّ السياسة لا تبدو غائبة، خصوصًا في ضوء ذهاب بعضهم لحدّ الحديث عن "تنازلاتٍ" لا يمكن تقديمها كرمى لعيون أحد.
ولكنّ الأمر لا يعدو كونه منافسة ديمقراطية طبيعية وعادية، وفقاً للنائب عن قضاء بعبدا ناجي غاريوس، الذي يوضح لـ"النشرة" أنّ أحداً لا يستطيع أن يمنع أحداً من خوض غمار المعركة إذا هو أراد ذلك، ويقول: "منذ البدء صوّرونا وكأنّنا أعداء وهميون للقرى والبلدات اللبنانية وهذا غير صحيح، وقد قلت منذ اليوم الأول أنّ المصلحة أن نتعاون مع الجميع في أيّ مكان نستطيع ذلك، وأن نتنافس متى لم نستطع، بعيداً عن السياسة". وإذ يشدّد غاريوس على أنّ المسألة مسألة تنافس بلدي وديمقراطي طبيعي وليست سياسية، لا يجد مشكلة حتى في الخلافات العونية العونية في بعض البلدات، شرط أن لا يصل الأمر إلى حدود التحدّي والكلام النافر، حيث يصبح الأمر عندها في يد الهيئة التحكيمية في "التيار"، التي تبقى لها الكلمة الفصل.
وما يقوله غاريوس يؤكد أيضاً مصدرٌ من "القوات اللبنانية"، حيث يلفت إلى أنّ الأمور كانت واضحة منذ اليوم الأول أنّ الهدف الأساسي هو التوافق، وقد بُذلت الكثير من المساعي في سبيل الوصول إليه، ولكنّ عدم التوافق ليس نهاية الدنيا، ويشير إلى أنّ الأمور ليست بالسوء الذي يحاول البعض تصويره، خصوصًا أنّ التنافس الحاصل ينطلق من احترام كلّ فريقٍ للآخر، وبالتالي فإنّه ضمن الحدود المرسومة، وهو لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال أنّ التفاهم مع "التيار" دُفِن في مهده، خصوصًا أنّه تفاهمٌ سياسي أبعد من استحقاقٍ بلدي إنمائي.
سقط في الامتحان؟
هو تنافسٌ طبيعي، ولا عداوات على الإطلاق. هذا ما يحرص "العونيون" و"القواتيون" على تأكيده في مقاربة المعارك المرتقبة في قضاء بعبدا، والتي وُجِدوا فيها إما منقسمين على نفسهم، أو في وجه بعضهم البعض.
ولكن أبعد من هذه "التبريرات"، يبقى السؤال الكبير عمّا إذا كان التفاهم العوني القواتي "سقط" عملياً في "الامتحان الأول"، و"الامتحان" هذا توصيفٌ كان "العونيون" و"القواتيون" هم من أطلقوه على الاستحقاق قبل نضوجه...