لم تكن الأمم المتحدة بحاجة إلى أزمة جديدة، حتى تثبت فشلها في معالجة القضايا التي تدّعي الدفاع عنها، إلا أن السقوط هذه المرة كان مدوياً باعتراف أمينها العام بان كي مون، الذي أكد أن المؤسسة الدولية رضخت لتهديدات ماليّة، منحت السعودية القدرة على الخروج من دائرة "المحاسبة"، فقط لأنها تملك المال الذي يخولها شراء حق "النقض"، كي تستخدمه ضد كل ما يعارض مصالحها، حتى ولو كان الأمر يتعلّق بحماية الأطفال خلال النزاعات، فالمال والقوة يحكمان العالم ولا داعي للحديث عن حقوق الإنسان أو الطفل.
كان من الممكن أن تمر هذه الحادثة مرور الكرام، لولا الكمّ الهائل من المعلومات التي تحدثت عن الضغوط التي مورست، بعد وضع التحالف الذي تقوده الرياض في اليمن على قائمة الأمم المتحدة السوداء، في تقريرها عن الأطفال والصراع المسلّح الذي يغطي العام 2015، الأمر الذي سارعت السعودية إلى نفيه، لا سيما بعد أن تم الكشف عن تهديد باصدار فتوى دينية تكفّر المنظمة الدولية، إلا أن بان كي مون خرج ليؤكد التهديدات المالية التي دفعته إلى الرضوخ، "بسبب مصير الأطفال الآخرين الذين سيتضررون إذا سحبت السعودية وغيرها المساهمات المالية إلى وكالات الأمم المتحدة التي تساعد اللاجئين الفلسطينيين وفي جنوب السودان وسوريا".
منذ تأسيس هذه المنظمة، على أنقاض الحرب العالمية الثانية، كان من الواضح أنها ولدت نتيجة تسوية دولية، تكفل حق الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، التي إنتصرت في نهاية الحرب الكونية، من خلال منحها حق "النقض" ضد أي قرار يعارض مصالحها، أي الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا، الأمر الذي عرقل دورها في حماية المبادئ التي ترفعها، لا سيما في ما يتعلق بحماية الأمن والسلام العالميين، حيث كانت كل دولة من هذه الدول، خصوصاً الولايات المتحدة وروسيا، تعمد إلى حماية حلفائها من أي محاسبة مهما كانت التجاوزات المرتكبة، ما دفع بالكثيرين على مر العقود السابقة إلى السؤال عن جدوى وجودها، طالما أنها عاجزة أو مكبّلة برغبات القوى الكبرى.
في المقابل، كانت الأمم المتحدة قادرة على فرض قراراتها على الدول الضعيفة، التي ليس لديها من يدافع عنها، لتكون الأداة التي من خلالها تستطيع تلك القوى الكبرى تنفيذ ما لا يمكن أن تقوم به بصورة مباشرة، أما في حال لم تكن قادرة على تجيير مؤسساتها لصالحها، فهي لا تتردد في تجاوزها، نظراً إلى أنها عاجزة عن المحاسبة، والدليل الحروب التي شنت من خارج مظلتها تحت عناوين مختلفة، والتي عادت مرغمة إلى إضفاء "الشرعية" عليها، بعد أن تحولت إلى أمر واقع، ليكون السؤال اليوم عن الهدف منها منطقياً، فهل هي فعلاً تدافع عن حقوق الإنسان أو تضمن حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ هل هي قادرة على حماية الدول الصغيرة من تلك الكبرى الراغبة في فرض سيطرتها على العالم أم أنها مجرد وسيلة يتم الإختباء خلفها؟
في الدول التي تُصنف "متخلفة"، يلجأ البعض إلى المال أو القوة لحماية نفسه من المحاسبة، في مؤشر إلى مدى الفساد الذي يكون مسيطراً على الواقع العام، حيث القهر وإنعدام المساواة الذي من الممكن أن يولد ثورة على النظام القائم، بالرغم من الشعارات والمبادىء التي تكفلها الدساتير والقوانين من الناحية النظرية، أما في تلك "المتقدمة" فإن الشرعية تكتسب من العدالة، التي تظهر عبر قدرة كل مواطن على حماية نفسه وتحصيل حقوقه المكفولة، من خلال المساواة في تطبيق القانون على الجميع دون إستثناء، والحق في اللجوء إلى المحاكم التي لا تراعي عاملي القوة والمال.
بناء على ذلك، تصبح الأمم المتحدة من المؤسسات التي يمكن تصنيفها بـ"المتخلفة"، في حين تعهد لها مسؤولية العمل على تحسين مستوى الحياة، بعيداً عن الحروب والنزاعات، بالإضافة إلى المساعدة على حماية الحقوق الإنسانية، لتكون على صورة رجل الأمن الفاسد المسؤول عن تطبيق النظام، حيث يتحول إلى العائق الأول أمام تحقيق الهدف السامي، ولكن هل يمكن الإصلاح في رأس الهرم العالمي؟ هل يمكن العودة عن الأخطاء التي ترتكب؟
التجارب التاريخية، تثبت أن الأمم المتحدة لم تكن قادرة على معالجة أي أزمة أو نزاع، محلي أو إقليمي أو دولي، إلا في الحالات التي يكون فيها التوافق بين القوى الكبرى سيد الموقف، لكن وجودها يبقى مطلوباً لحفظ التوازنات بين تلك القوى لا أكثر، في حين أن تطورات السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد إنتهاء الحرب الباردة، أثبتت أن هذا التوازن يحتاج إلى إدخال تعديلات عليه، بعد أن عادت قوى دولية أخرى إلى الساحة العالمية، فهل تكون الرشوة وإمكانية شراء حق "النقض" والتقارير الدولية هي أولى علامات السقوط الفعلي بعد السقوط الأخلاقي سابقاً؟