على هامش الهجوم الإرهابي على الملهى الليلي في أورلاندو في ولاية فلوريدا، الذي وصفه الرئيس الأميركي باراك أوباما بأنه الأخطر على مستوى الولايات المتحدة، منذ أحداث الحادي عشر من أيلول، هناك حقائق تتكشف يوماً بعد آخر، من دون أن يجرؤ الكثيرون على الإعتراف بها بصورة علنية، نظراً إلى تداعياتها الخطيرة التي قد تتجاوز حدود دولة محددة.
إنطلاقاً من ذلك، ينبغي قراءة كافة الأسباب التي قادت إلى نجاح تنظيم "داعش" الإرهابي في تنفيذ هجوم كبير داخل الولايات المتحدة، في الوقت الذي يتم فيه التركيز على محاصرته مالياً وعسكرياً، في معاقله الرئيسية في سوريا والعراق، حيث الرغبة في تحقيق إنتصار معنوي كبير عليه، يمكن الإستفادة منه على المستوى السياسي، لكن على ما يبدو "داعش" أيضاً بحاجة إلى إنتصار معنوي آخر، يستفيد منه على صعيد إثبات نفسه كمرجعية لما يسمى "الجهاد العالمي"، بعد أن نجح في سرقة الأضواء من "القاعدة"، بالإضافة إلى شد عصب جمهوره، عبر التأكيد أنه قادر على تنفيذ هجمات موجعة رغم الحرب التي تخاض ضده.
في هذا السياق، ينبغي الإنطلاق من المعضلة الأساسية التي يتحدث عنها المسؤولون الأميركيون، أي الجهة التي ينتمي إليها منفذ الهجوم الأميركي من أصل أفغاني عمر متين: "داعش" أم "القاعدة"؟ بالرغم من أن المعلومات تؤكد بأن الرجل ينتمي إلى التنظيم الإرهابي الأول، فهو قال أنه فعل ذلك من أجل "داعش"، إلا أن الشبهات في السابق كانت تدور حول إنتمائه إلى "القاعدة"، كما أنه تحدث أيضاً عن مفجري بوسطن، الشقيقان تسارناييف، وأبدى تضامنه مع الانتحاري الأميركي منير محمد أبو صالحة، المنتمي إلى جبهة "النصرة"، الذي فجر نفسه في هجوم انتحاري في سوريا عام 2014.
في السابق، أي قبل بروز "داعش" على الساحة العالمية، تحولت "القاعدة"، بعد الهجوم الذي تعرضت له في أفغانستان، لما يشبه "اليافطة" التي تعلق عليها هجمات قد لا تكون مسؤولة عنها، لا بل أن رسائل زعيم التنظيم الراحل أسامة بن لادن، كشفت أنه لم يكن راضياً عن عمل بعض الفصائل المنضوية تحت أمرته، أما اليوم فإن "داعش" بات هو الملهم، نظراً إلى تراجع "القاعدة" إلى حد كبير، وهذا الأمر يتأكد من خلال الملابسات التي كشف عنها الهجوم في أورلاندو، حيث المنفذ الذي تربطه علاقات سابقة بـ"القاعدة"، ذهب إلى "اليافطة" الجديدة، أي "داعش"، التي باتت أكثر جذباً على مستوى "الجهاد العالمي".
ما تقدم يقود إلى فرضية حصول هجمات تحمل توقيع "داعش" في العلن، لكنه ربما قد لا يكون مسؤولاً عنها على مستوى الإعداد والتنفيذ، الأمر الذي يمكن فهمه من خلال الرسالة التي توجه بها الناطق باسم التنظيم أبو محمد العدناني، في الفترة الأخيرة، التي كانت بمثابة دعوة، موجهة إلى كل "متعاطف" يريد تنفيذ عمل إرهابي، إلى المباشرة، في حال توفرت له الإمكانات، من دون إنتظار قرار من قيادة مركزية، لا سيما أن أغلب المعلومات التي يحتاجها "الجهادي" المفترض موجودة في بعض المنتديات الإلكترونية، وفي ظل إنتشار السلاح في الولايات المتحدة على سبيل المثال، كما هو الحال في الهجوم الأخير، لا يحتاج إلا إلى القرار الفردي، الذي ينبع من "الإيمان" بمثل هذا النوع من الأعمال، بغض النظر عن الدوافع الشخصية التي تلعب دوراً أساسياً.
بناء على ذلك، بات كل من لديه مشكلة يستطيع أن يقوم بردة فعل عنيفة تنسب إلى "داعش"، كما من الممكن أن تحصل العديد من العمليات المخابراتية التي تلصق به، إنطلاقاً من الصورة الإعلامية التي يتمتع بها، فالتنظيم، الذي دغدغ مشاعر الكثيرين من خلال إطلاق فكرة "الخلافة" أو "الدولة الإسلامية"، بات ملهماً لجميع الذين يعانون من أزمات إجتماعية أم إقتصادية أم سياسية، ويرون بأن هناك أملاً لهم في "الدولة" المزعومة التي يتم الترويج لها على نطاق واسع، لا سيما من يشعر منهم بعدم القدرة على الإندماج في المجتمعات الغربية.
بالتزامن مع هذا الواقع، حيث العشرات من الأفراد في الدول الغربية الراغبين بالإنضمام إلى "داعش"، يسعى التنظيم نفسه إلى تنفيذ عمليات في هذه الدول، من خلال إرسال عناصره المدربين جيداً إليها، نظراً إلى أن تداعيات تنفيذ عملية في باريس أو بروكسل أو غيرها من العواصم أكبر من تنفيذ العشرات في الدول العربية والإسلامية، كما أنها تشكل رسالة إلى من يشارك في التحالفات الدولية ضده، وهو لديه أساليبه في هذا الأمر، كما حصل عندما تم إرسال البعض عبر طرق التهريب غير الشرعية، حيث كانت الأبواب مفتوحة أمام اللاجئين.
في المحصلة، كشف الهجوم في أورلاندو أن "داعش" بات ملهماً بالنسبة إلى الكثيرين، فبعد أن كان يستفيد من الأزمات من جذب "المجندين"، باتت هذه الأزمات نفسها منطلقاً لشن هجمات باسمه، في مؤشر إلى العجز عن ضبط حركة "الجهاد العالمي" من قبل أغلب القوى الكبرى، بعد أن تحولت الأفكار المتطرفة إلى أسلحة متفلتة.