لا تذهب من ذاكرة الناس قصة "المكاري" وبيعات المسا اذ كان اهل القرى يعرفون البائع المتجول جيداً متنقلاً بين دسكرة ودسكرة وبين قرية وقرية وحي وآخر. وكان المكاري يعرف بذلك لانه كان يتقن"المكارات" او "مدابلة" البغال والاحصنة او الدابة التي يتنقل عليها ويحملها وزر البضائع التي يبيعها. المكاري الذي لا يزول من ذاكرة الناس حتى اليوم ويقلده كثر من الباعة والتجار، كان يوصف بالمتشاطر والمتحذلق فكان يعرض آخر بضاعته من دون ارباح او برأسمالها عند المساء للتخلص منها ولشراء اصناف جديدة بثمنها في اليوم التالي. فهو بواقع الامر لا يخسر شيئاً واذا ربح قليلاً في المساء فخلال النهار يؤمن رأسماله وربحه و"وحبة مسك".
ما يقوم به النائب سامي الجميل ومنذ تسلمه رئاسة الحزب الكتائبي انه يمارس على قاعدته الحزبية والشعبية وعلى اللبنانيين والطبقة السياسية لعبة التشاطر والتحذلق على المكشوف وعلى عينك يا تاجر. وهو لحسن الحظ او سوئه لا احد يدري يشعر انه يربح ويستمر في هذه اللعبة من دون ان يثنيه احد او يواجهه احد، فالظروف هي نفسها على الجميع وكل القوى السياسية تستقوي على الحكومة والبلد والشعب ورئيس الحكومة.
التشاطر "الجميلي" برز امس جلياً عندما زار العنيد الابن السراي الحكومي حيث يمكث ايوب لبنان المعاصر تمام سلام، فقال الجميل انه ابلغ سلام شفوياً بالاستقالة والخطية لا تقدم الا الى رئيس الجمهورية.
وهو وبما انه يعرف ان لا رئيس للجمهورية منذ عامين ولم ينتخب رئيس بعد مرور اكثر من 750 يوماً ولم تنجح المحاولات التي تسمى بجلسة انتخاب الرئيس النيابية، فلماذا استقال وهو يعرف ان لا امكانية لقبولها ولا تخريجة لها؟
واذا لم يكن متأكداً من ان الاستقالة الدستورية الفعلية لا تتم الا بوجود كل المؤسسات ورؤوسها من الرئاسة الى الحكومة الى مجلس النواب، وان لا فعالية لاستقالة صوتية او شفوية ولا تصرف في واقعنا الحالي، فلماذا يزايد ويشاكس على طبقة سياسية صارت ممارساتها فاضحة وفاسدة وطلعت ريحتها ولا تزال من بوابة النفايات؟
ويتبين من خلال المعلومات ان وزير الاعلام رمزي جريج كان الاجرأ في رفض الانصياع للقرار الكتائبي الحزبي و"عذره" معه لانه ليس حزبياً، بينما لم يبلع الوزير الشاطر سجعان قزي الاستقالة بعد ويريد ان يستمر في خدمة المواطنين والكادحين. بينما لا تفرق كثيراً مع الوزير آلان حكيم المصرفي والذي ضاق ذرعاً من التناتش مع وزراء وليد جنبلاط في الزراعة والصناعة من بوابة الغذاء والاسمدة والقمح والدواء والالبان والاجبان. فإذا بقي وزيرا الكتائب المستقيلان شفوياً قزي وحكيم، يمارسان عملهما ويقبضا رواتبهما الوزارية، ولم يتسلم الوكيلان تصريف الاعمال، تكون حبراً على ورق كما استقالة اللواء المتقاعد والوزير المستقيل اشرف ريفي من وزارة العدل. حيث عاد الى ممارسة صلاحياته كوزير اصيل للعدل ومنع القاضية اليس شبطيني ووزيرة المهجرين من ممارسة الوكالة الوزارية التي منحها اياها مرسوم تشكيل الحكومة. و"القبضاي يقرب صوبه". فعندما أشيع ان الحكومة ستقبل استقالة ريفي قيل ان السنة يرفضون هذه السابقة. واليوم سيأتي احدهم ليقول ان الحكومة التي يرأسها سني ستقبل استقالة وزيرين مسيحيين وبذلك نخل بالميثاق الوطني والنصاب العددي للحكومة.
وبما ان "يا ارض اشتدي وما قدي" بفعل الازمات المحيطة بلبنان ووضعه القائم "على صوص ونقطة"، يجعل من تمام سلام صابراً ومحتسباً في سراياه، التي لولا الازمات ايضاً لما كان دخلها ومكث فيها حتى الآن ثلاث سنوات. وربما يبقى مثلها من يدري فهو اذا كان صابراً ويعض على جراح التعطيل والمناكفة، الا انه في الاخير رئيس حكومة لبنان بصلاحيات واسعة حكومية ورئاسية وهو يمثل لبنان مع وزارته مجتمعة ويسافر ويستقبل ويودع، وهو رئيس كامل المواصفات الحكومية والسياسية.
في الانتخابات البلدية الاخيرة راقت لسامي الجميل والكتائب لعبة الارقام التي كسبوها من تحالفهم مع الارمن والنائب ميشال المر في المتن. والمر والجميل متضرران في مكان ما من تلاقي القوات والتيار الوطني الحر، فكسبا اصواتاً وارقاماً لا بأس بها "على ظهر" الثنائي الاخضر والبرتقالي جراء اللعب على التناقضات المسيحية وتلاقي المتضررين، بينما خسر الكتائب في اكثر من منطقة لكن حصته في النهاية بقيت جيدة ومناسبة.
يريد اليوم سامي الجميل ان يحجز له مكاناً مختلفاً مسيحياً وهو المتضرر من تفاهم معراب الذي لا يسمح بـ"راكب ثالث" هكذا هي تركيبة مسيرة جعجع وميشال عون وارقام الشارع المسيحي التي تؤكد تفوق العدد الشعبي والنوعي لصالح الثنائي المسيحي. فلا ضير من استقالة لا مفاعيل لها في زمن الشغور وهي مزحة سياسية سمجة في الوقت الضائع. ولا ضير ايضاً من سد ينفث ماء قبل ان يكتمل بناؤه، هكذا هي الحال في زمن العجائب اللبناني، حيث تكثر الطبخات والطباخون وتحترق الطبخة والمقادير تختلط والناس والبلد جياع.