يوم همس أحدُهم من أهل البيت: “لو لم يكن على حقٍّ لما أقالوه”، خشي على نفسه من أن يكون مصيره مشابهًا رغم أنه يُعتبر من “الصغار” السهل “اقتلاعهم” من الصخرة التي فقدت أحد أبرز حجارتها. هكذا وببساطةٍ خسر حزب الله والوطن والعائلة كادره المتفوّه ورجله المناضل في ساحات السياسة كما الفكر.
بقي سجعان قزي وزيرًا ولم يعد كتائبيًا. بقي وحيدًا يمثّل ما يمثّله من دورٍ مسيحي لا بل ماروني في حكومة لم يكن راضيًا عن مغادرتها، ومع ذلك التزم بقرار حزبه. لم تصبر القيادة كثيرًا على المخضرم فقررت فصله. طوت الصيفي بشطبة قلم وبقرارٍ “يافعٍ” سنواتٍ طوالًا من تاريخ منغمسٍ في كلّ شاردةٍ وواردة. رمى الرئيس سامي الجميّل الذي لم يكن قد ولِد بعد يوم استهلّ قزي مسيرته السياسية كلّ شيءٍ خلف ظهره وأناط بعميد الحزب قراءة بيانٍ فحواه وسط كل التسويغات واللغو: لم نعد نريد سجعان.
إضافة للحزب!
ربّما استشعر سامي، الوريث الشرعي الوحيد لأمين، متأخرًا أن مقوّمات سجعان قزي السياسية والتاريخية والفكرية والتفوّهية تشكّل خطرًا على بعض المقامات المتقدّمة في الحزب، وربما أراده حزبًا شابًا يُقصي كلّ من اعتراه الشيب في ساحات النضال والخضرمة رغم أن هؤلاء ومنهم جوزف أبو خليل يشكّلون إضافة بديهية للحزب الباحث عن نفضةٍ نوعية منذ تسلّم الابن الأيفع زمام الحكم والكلمة فيه. يقول بعضهم إن رأي الرئيس أمين الجميل لم يكن ليذهب في هذا الاتجاه الحاد تُجاه وزيرٍ فذّ كقزي لو كان ما زال في سدّة رئاسة الحزب، بيد أن سامي لا يشبهه كثيرًا ويبدو أنه لا ينهل من تراكم خبراته كما لا يستشفُّ منه موقفًا ولا يلتمس منه رأيًا. أراده سامي صرفًا من الحزب فكان بشبه إجماع داخل مكتبٍ اعتاد أن يكون قزي أحد أبرز أركانه في القرارات المصيرية وعلى رأسها مقاطعة حزب الكتائب جلسات مجلس النواب بذريعة أن الأخير يجب أن ينعقد لانتخاب رئيس للجمهورية حصرًا لا أن يكون هيئة تشريعية.
عائدٌ الى الحكومة
هل يبقى قزي وزيرًا طالما أنه لم يعد كتائبيًا إلا بالروح وأقله بالبطاقة؟ واضحٌ أن وزير العمل لم يُرِد الاستقالة منذ البداية، وواضحٌ أنه حاول المناورة على هذا الصعيد ملتزمًا الحضور الى مكتبه بصفته وزيرًا كامل الشرعية طالما أن استقالته وزميله آلان حكيم لم تُقدَّم خطيًا الى رئيس المجلس. اليوم قد لا يتغيّر شيء وقد لا تنكسر رغبة الرجل المُعلنة في البقاء وزيرًا للعمل، يؤمُّ الجلسات بصورةٍ عادية ويمارس مهامه في مكتبه الخاص أو في وزارة العمل. بالنسبة اليه، هو ما زال شاء من شاء وأبى من أبى يمثّل في الحكومة مكوّنًا مسيحيًا لا بل مارونيًا وهي الكلمة التي لم يتفوّه بها قبيل التماس رأي البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في بكركي وما إذا كان يبارك له هذه الصيغة الخلاصية التي تُبقيه وزيرًا بالقوّة والفعل. أما بالنسبة الى الكتائبيين، فهو وزيرٌ حرٌّ يمثّل نفسه أو من أراد تمثيله في الحكومة من دون أن يُحسَب على بكفيا بأيّ شكل سواء عاد والتزم إرادتها بعدم حضور الجلسات أم حضرها.
صفعتان...
في غضون أيام قليلة، تكلّف الكتائبيون صفعتين متعاقبتين تهددّان بهزّ مداميك الحزب الذي ما عاد يعرف ماذا يريد وماذا يفعل، أو يعرف جيدًا ماذا يريد وماذا يفعل. صفعةٌ أولى تجسّدت في تنصّل وزير الإعلام رمزي جريج من عباءة الحزب عندما “حزّت الحزية” وبلغته نوايا الاستقالة فسحب نفسه بحنكةٍ تاركًا للكتائبيين وزيرين: أحدهما متمرّدٌ بعقلانية وثانيهما مطيعٌ بعقلانية. أما الصفعة الثانية فجناها الحزب على نفسه تحت عنوان “التصالح مع الذات” بطرده قزي خارج أسواره وحلقة كوادره الضيّقة القادرة على اتخاذ قراراتٍ مصيرية وتفصيلية.
ربح وخسارة
ماذا يربح الكتائب من هذه الخطوة وماذا يخسر؟ المعادلة بسيطة ومحسوبة بشكل جيّد بالنسبة الى الرئيس ومقرّبيه وإلا لما اتُخِذ القرار بعد أيام على خطوة الاستقالة والتي شهدت امتعاضًا من قزي سرعان ما أجهضه أخيرًا معلنًا التزامه بقرار الحزب وولاءه له من السراي الحكومي تحديدًا. هي خطوةٌ رابحة بالنسبة الى سامي الجميّل الماضي في سياسة التمايز بدءًا بالاعتراض على أكثر الملفات حساسيّة وتلبُّسه دور كشف “مافيات” الفساد وأرباب الصفقات، مرورًا بمقاطعة مجلس النواب بشكل نهائي إلا في جلسات انتخاب الرئيس، وصولًا الى التمايز داخل الحكومة حدّ التصادم وهو ما استولد قرار الاستقالة. متصالحًا يبدو الجميل مع هذه الخطوة التي سيقطف ثمارها إن لم يكن اليوم فغدًا، أراد الشاب أن يقول ببساطةٍ على ما يُسرُّ مقربوه في آذان السائلين إن “كل خطوة يتخذها من اليوم فصاعدًا إنما هو جدّي فيها ومتصالحٌ معها من دون أن يكون في الأمر لعب ولاد كما يوحي بعضهم أو مناورة بحثًا عن مكاسب سياسية أو مسيحية”. بدا الأمر وكأن الحزب لم يحفظ خط رجعة ولم يترك نقطة عودة عن قراراته رغم أن استقالته لا تزال شفويّة، بيد أنه ومع التسليم بعشقه للبهرجة الإعلامية والخضّات غير المنتظرة، صار مضطرًا الى المضي في سياسة التعنّت حتى لو كلّف الأمر سامي الرئيس إقالة أكبر الرؤوس في حلقته الضيّقة.
عدم رضى مكبوت
ما يعتبره بعض الكتائبيين مكسبًا يوضع في خانة الحفاظ على المبادئ العامة وقوانين الحزب الداخلية، يجده آخرون من داخل الحزب نفسه ورقة خاسرة في هذه الظروف التي تشهدها البلاد والتي تتطلب من حزبٍ عريق كالكتائب وعيًا أكبر على أن يشنّ حروبه على الفساد من داخل السلطة لا من خارجها. أما في الخطوة الأخيرة، فيبدو عدم الرضى المكبوت عنها أشبه بموجةٍ قد تُغرِق سامي وعوّاماته وكاريزماه طالما أن هناك من الكوادر من ارتأى الاتصال بقزي متضامنًا. لا يغضّ هؤلاء الطرف عما قدّمه سجعان طوال مسيرة وفائه الكتائبية، ولا عن الحاجة الى متعقّلين أمثاله في هذه المرحلة، بيد أنهم قد لا يجرؤون على التفوّه بما أسرّوه لقزي هاتفيًا إلا إذا كان الحديث عن ولادة حركةٍ تصحيحية للكتائب بدأ يُبحَث في الكواليس الصغيرة وهو ما من المبكر الحديث عنه في ظلّ إصرار قزي على إخراج مشاعر ولائه للحزب الذي أمضى فيه أكثر من نصف سني عمره سياسيًا ومرجعًا وباحثًا وكاتبًا.
هو قدره...
هو قدرُ قزي، لا بل هو قدرُ “الكتائب” المتخبّط شأنه شأن باقي تجارب التوريث المتهاوية أو في أحسن الأحوال المُتمرَّد عليها من أبناء الميدان. لم يكن قرار الصيفي شكليًا ولن يعود كذلك، فما كُتِب قد كُتِب وسجعان قزي الذي يصلي أن تطول فترة إقامته في وزارته خسر عضوية حزبية ليفوز بأخرى وطنية.