عندما إندفعت أمواج اللاجئين العرب نحو الدول الاوروبية في السنوات الماضية، إتسع التأييد للأحزاب اليمينية وعاد الحنين الى القوميات في تلك الدول. كان يشعر اساساً الفرنسيون والبريطانيون والألمان وغيرهم بأن مساحات واسعة في دولهم صارت خارجة عن السيطرة لوجود مخيمات او تجمعات لفقراء ولاجئين ومهاجرين شكّلوا أحزمة بؤس قبل أن تصل اساساً دفعات هاربة من "الثورات العربية" بعد عام 2011. هؤلاء قادرون على اجتياح شوارع أساسية في قلب العواصم. يمكن ان تلحظ ذلك في شوارع باريس ليلا الآن.
اتحادياً تميزت بريطانيا عن كل الدول الأوروبية، الى درجة انها أبقت خصوصياتها الثقافية والسياسية والمالية والعسكرية والاجتماعية قائمة ولم تَذُبْ كلياً في اوروبا، لا في العملة الاوروبية الموحدة "اليورو" ولا في "الشنغن" ولا حتى بإجراءات أخرى. كانت بريطانيا تضع نفسها بحجم قارة اوروبا كلها وتتصرف على هذا الأساس. كان الإنكليز قوة عظمى تسيطر على دول في الشرق والغرب ولديهم مقاطعات ما زالت تحت سيطرتهم حتى الآن.
شعر البريطانيون أن أعداد المهاجرين الأوروبيين تزداد. يتسبب هؤلاء بأزمات إجتماعية ويورطون البلد بمشاكل تُفقد وهج بريطانيا الذي اكتسبته تاريخياً. لماذا تبقى الحدود مفتوحة لأبناء بولندا ورومانيا وغيرها؟ هم ينافسون البريطانيين في أعمالهم ومساحات وطنهم ويشرّعون أمن بلدهم على مخاطر يشعر البريطانيون أنها ستحلّ مع تزايد موجات التطرف الآتية أيضاً عبر "دواعش" وخلايا نائمة. هاجس الامن شكل العنوان الاساسي في خطابات الاحزاب اليمينية، عززتها عند الجماهير العمليات الإرهابية التي يقوم بها تنظيما "القاعدة" او "داعش" في مختلف الدول الغربية.
في الأساس أيضاً كان الشعب البريطاني يحتج ضمناً على دول خرجت من عباءة السوفيات بعد سقوط الاتحاد وانضمت الى الاتحاد الاوروبي فتساوت على الطاولة مع "امبراطورية" اسمها المملكة المتحدة.
الأهم ان من يعزز اليوم عودة الفكرة القومية الى الحياة على حساب الاتحادات، هم الطبقات الفقيرة وأصحاب الدخل المحدود، كما بدا في شمال بريطانيا بالتصويت لصالح الخروج من الاتحاد، وهم اساساً موضع التنافس مع القادمين من دول أخرى. فأراد البريطانيون إبعاد المهاجرين الآتين تحديداً من أوروبا الشرقية.
في هذا البعد تأتي نتيجة الاستفتاء كثورة شعبية بيضاء ضد السياسات البريطانية الحكومية. يقولون: ماذا حقق لنا الاتحاد الاوروبي غير إغراقنا باللاجئين والمهاجرين والعمال والمنافسين؟
انها أزمة فقدان الثقة الشعبية بالنخب السياسية أيضا،ً لقد تشكلت هوّة بينهما تستفيد منها الاحزاب المتطرفة. تلك حالة لا تقتصر على بريطانيا بل تمتد اليوم على مساحة اوروبا والعالم. من هنا تأتي المطالبات في بعض الدول بالاستفتاء للخروج من الاتحاد الاوروبي، ويأتي أيضاً على سبيل المثال الانسجام الشعبي الأميركي مع خطابات المرشح الرئاسي دونالد ترامب.
الأصوات التي تعلو في دول أخرى للخروج من الاتحاد الأوروبي ستزداد. ستمهّد لثورات شعبية ضد اتحاد يتهمونه بالبيروقراطية وبأنه أتى لخدمة الأثرياء على حساب الفقراء. هم يرون في وسائل اتخاذ القرارات الاقتصادية والسياسية لاديمقراطية، حيث تغيب فاعلية البرلمان الاوروبي، بينما يتصدر دور موظفين في اتخاذ القرارات.
لا يبدو ان الامور ستقتصر على خطوة بريطانيا. طالما التطرف يتمدد ستزداد خطوات التقوقع والاعتماد امنيا على الذات. وما يترقبه المطلعون خروج أصوات تطالب بالانسحاب من "حلف شمال الأطلسي-الناتو". لا حاجة لصرف الاموال ولا الاعتماد على الاتحادات بشكلها الحالي. وطالما الأزمات الاقتصادية قائمة وتتسع مع وجود اعداد كبيرة من اللاجئين والمهاجرين ستزداد خطوات الثورات البيضاء. العالم يتغير والأنظمة تتعدل. وقد نشهد عودة صراعات كانت حتى الأمس القريب في شوارع "ديري" في ايرلندا الشمالية او في مكاتب العاصمة "بلفاست". لا زالت ايرلندا تلك تعيش الذكريات من دون حسرة. هي الآن غاضبة بعد قرار الخروج من الاتحاد الاوروبي. ما يعني انها قابلة للعودة الى تجاربها السوداء بعد نزع الرئة التي تتنفس من خلالها بالتواصل مع "ايرلندا المستقلة" او دول أخرى. من يزور "بلفاست" و"ديري" يلاحظ ذلك بوضوح.
يبدو المسار طويلاً، قد نصل فيه الى مرحلة الانتقال من الثورات البيضاء الى الثورات العنفية في الشوارع. هذه المرة لطرد اللاجئين او المهاجرين في حال بقي الخيار سلمياً. التطرف الداعشي يساهم في الحقد على المسلمين تحديداً وقد يسمح بتعرضهم للعنف الحاد، كما كانت الحال تاريخيا في النزاعات الاوروبية.
في دلالة بريطانيا والاصوات الاوروبية مؤشر سلبي جداً لما تحمله المرحلة المقبلة تحديدا على العرب والمسلمين في الدول الغربية.