خلافًا لعادتهم التاريخية، يبدو أن تفاهم الرابية ومعراب أفلح بعد أشهرٍ في إرساء نوعٍ من الثقة المتبادلة بينهما. صدق قائلٌ “سبحان من يغيّر ولا يتغيّر”، فحتى لقاءٌ مفاجئٌ بين الدكتور سمير جعجع والرئيس سعد الحريري لا يهزّ الرابية ولا يزعزع ثقة أبنائها بما سيقوله جعجع على الطاولة وما سيرفضه لأنه يخالف بنود الاتفاق المسيحي التاريخي.
لم يكن العونيون ليمنحوا أهمية مُعتبَرة لمثل هذا السحور العابر لولا بعض الهمسات التي يحاول أصحابها الاصطياد في الماء الصافي. فاللقاء بالنسبة الى الرابية بديهي ومحاولات الإيقاع واهية، وانتهى البيان.
لا ضجّة...
لم يُثِر لقاء بيت الوسط ضجّة وما احتلّ حيزًا كبيرًا من تحليلات الأقربين والأبعدين لسببين: أولًا لأنه لم يأتِ بأيّ جديد أو صادم على مستوى إثبات المُثبت أي تعزيز البديهيات المطلوبة من أي رجل دولة مسؤول في هذه الظروف الأمنية المهتزة التي جلّ ما تحتاج اليه إنما هو التفاف وثيق حول الجيش اللبناني. وثانيًا لأن ما قيل داخل الاجتماع هو نفسه ما صدر في البيان الصحافي الذي أعقب اللقاء من دون زيادة أو نقصان ومن دون تسريباتٍ تشي بأن جعجع يلعب من خلف ظهر حليفه المسيحي الجديد، وعليه لا حاجة الى تساؤلاتٍ عونية عن ماهيّة اللقاء وتفاصيله ومفاعيله طالما أن أحد طرفيه يعي ما سيقول إن لم يكن يمثّل الرابية ومعراب في آن من خلال طروحه المتّفق عليها مع حليفه الجنرال والتي غدت بمثابة إنجيلهما اليومي في كلّ محفل وحدث واستحقاق.
الرابية تراعي الظروف
يبدو واضحًا أن الرابية لا تقزّم اللقاء بين جعجع والحريري نظرًا الى الحاجة الماسّة الى تبنّي سياسة اليد الواحدة في وجه إرهابٍ لا يرحم، بيد أنها في المقابل لا تعيره أهمية قصوى ولا تبني عليه كثيرًا من شطحات الخيال على غرار ما فعل كثيرون آخرون عندما بدؤوا يبنون آمالًا جمّة على اللقاء ويتحدثون عن إمكانية استعادة العلاقة بين الرجلين عافيتها التامة. ليست الرابية ضدّ هذا المنطق، ولكنها تعرف أنه شبه مستحيل طالما أن ثوابتها هي نفسها ثوابت معراب التي لا تناسب بيت الوسط على ما ظهر في الأيام التي أعقبت الاتفاق المسيحي وقراءة البنود الجوهريّة. بحكمةٍ ينظر العونيون الى اللقاء على أنه ضرورةٌ للخروج بصيغة موحّدة حول مبادئ حماية الوطن ورفض الأمن الذاتي والوقوف في ظهر الجيش والقوى الأمنية، قبل التعريج على مواضيع خلافية كالاستحقاق الرئاسي الذي وتّر الأجواء نظرًا الى تمسّك جعجع بترشيح عون مقابل اقتناع الحريري بترشيح فرنجية.
بعدٌ استراتيجي
ديمقراطيًا يتعامل العونيون مع هذا اللقاء. فكما لهم الحقّ في مجالسة حليفهم الشيعي حزب الله الذي لا تربطه بالقواتيين أي صلة سوى “رئاسة العماد”، لمعراب الحق أيضًا في إعادة إنعاش علاقاتٍ وتحالفاتٍ سابقة وإصلاح اعوجاج طريقٍ سلكته مع تيار المستقبل طوال عشر سنوات قبل أن يحدث الفراق. وإذا كان من بعد استراتيجي لهذا اللقاء يقفز الى مخيلات أبناء الرابية ومعراب فهو حتمًا سيصبّ في خانة تقريب وجهات النظر. تمامًا كما كان العماد عون ولا يزال يحاول تأمين الأرضية اللطيفة للقاء السيد حسن نصرالله بجعجع، يبدو أن هناك مسعًى قواتيًا جديًا الى تقريب وجهات النظر بين التيار الوطني الحرّ والمستقبل في سبيل الخلوص الى رؤيةٍ موحّدة للملف الرئاسي تصبّ في خانة الاتفاق على عون رئيسًا. قد لا يكون الأمر في غاية الاستحالة بالنسبة الى الحريري الباحث عن ظهر مسيحي يقوّيه في معاركه السياسية المقبلة بعدما أضنته الخيبات في ساحاتٍ سنيّة عدة وتعد بتخييبه بصورةٍ أكبر في الانتخابات النيابية أيًا يكن الانتخاب، فكم بالحريّ إذا انتصرت “النسبية” جزئيًا، ماذا يحدث له في بيروت على سبيل المثال لا الحصر من دون مكوّن مسيحي قوي؟
لقاءٌ لا بدّ منه
سمع الحريري من جعجع ما يريد عون إسماعه إياه، فالرجل الحريص على المصالحة التي تمّت بعد 30 عامًا لن يفرّط فيها كرمى عيني من خدعه ذات يوم ورشّح فرنجية من خلف ظهره، ومع ذلك يجد رجل معراب أن مصلحة الوطن فوق كلّ اعتبار و”حرَد”، لذا كان لا بدّ من هذا اللقاء الذي لا يحمل غسيل قلوب بعدما طوى الرجلان ما حدث وذهب كلٌّ منهما في طريقٍ اختارها طوعًا. وحده الشأن الانتخابي بقي هاجس الحريري الأوّل القائم على رفض مبدأ النسبية بأي شكلٍ ركونًا الى التجربة البلدية غير المشجّعة في ساحاته الثلاث (بيروت-صيدا-طرابلس)، وعليه كان القانون المختلط أشبه بالمنفذ لكليهما، فلا الحريري يجرؤ على الضغط علنًا في اتجاه “الستين” ولا جعجع أراد أن يوجع علنًا بدعمه قانونًا قائمًا على النسبية الكاملة وهو أمرٌ مستحيل، لذا بدا القانون المختلط الذي “يحشر” المستقبليين كونهم أحد عرابيه مقبولًا لدى الرابية أيضًا، بغض النظر عن تفاوت الأولويات بين “رئاسية” للحريري ومعسكره، و“نيابية“ للرابية ومعراب.
ريبة وحذر
بريبةٍ ينظر الحريري الى تكويعة النائب وليد جنبلاط والتفافه على عون، وبحذرٍ يحاول استعادة الطريق الى قلب معراب وزعيمها. يعلم الرجل أن إبعاده عن عون بشتى السبل لم يعد واردًا اليوم، تمامًا كما يعرف أن ردّ الفعل العوني التفهّمي لمثل هذا اللقاء لا يلعب في صالحه بقدر ما يقوّي تفاهمهما ويغذي بذور الثقة بينهما، وليس التعاطي العوني مع السحور الأخير سوى خير دليل.