يكفي أن تخرج من منزلك صباحاً وتتأمّل من حولك لتُدرك أنّ الحال في لبنان ليست على ما يرام، أو يكفي أن تستمع الى نشرات الأخبار المتضاربة وفقاً للجهة التي تروّج لها لتكتشف أنّ الأمور تتبدّل تدريجاً ولكن بشكل سريع نحو الأسوأ، وسرعان ما ستصل الى مكان اللاعودة... ويكفي أن تدخل في نقاش حول قضية ما لتُدرك حجم الضياع الذي تتخبّط فيه أنت والشخص الذي يناقشك حتى لو كان الموضوع واضحاً وعلمياً...
إنه باختصار زمن الضياع المقصود الذي يمنعك كما غيرك من اكتشاف الحقيقة ومن فضح التجاوزات سواءٌ وقعت في القطاع الخاص أو العام. فالأرقام أصبحت وجهة نظر والحقيقة نسبية، وكثرة الآراء تضيع «الشنكاش» كما يقول المثل الشعبي... كلّ ذلك والنتيجة واحدة: ضياع الفرصة تلوَ الفرصة على اللبنانيين، واستفادة قلة قليلة من ثروات مفترض أن تكون ملكاً لشعب يستبدل أمواله المسلوبة من أمام عينيه باعتراض كلامي لا يثمّن ولا يغني عن جوع...
والأمثلة على ضياع الحقيقة بسبب المماحكات كثيرة، وإليكم بعض الأمثلة على موضوعات كانت في الآونة الأخيرة موضع نقاشات عقيمة لم تقدّم لنا إلّا مزيداً من الضبابية والالتباس:
فبعد طول انتظار وتحوّل الاوتوستراد الممتد بين نهر الكلب وطبرجا الى موقف كبير بسبب زحمة السير، اتُخذ قرارٌ بالبدء بتوسعته عبر اضافة ممرّين الى الأوتوستراد الحالي، الأول الى الشرق والثاني الى الغرب بعرض يسمح بمرور ثلاث سيارات على كلّ مسرب من بيروت وإليها. وتحتاج الأعمال فيه الى ثلاث سنوات.
فور إعلان الخبر خرجت أصوات سياسيين وخبراء ومهندسين وإعلاميين معترضة على فكرة وتكلفة المشروع مشكّكة في جدواه، طالبة باستبداله إما بطريق اضافية تمرّ فوق الأوتوستراد الحالي أو بنفق يمتدّ داخل الجبل المحاذي أو بطريق بحريّة او بأوتوستراد جديد... أمام كثرة الاقتراحات والتحليلات والمقالات ضاع المواطن، ونسيَ همّه الأساس، أي زحمة السير التي يعاني منها يومياً، كما نسيَ طرح الاسئلة البديهية على المسؤولين: لماذا تأخّر هذا المشروع الحيوي ولم يعالج الوضع قبل تأزّمه؟
ومَن سمح بوصول التعدّيات على الاملاك العامة الى ما وصلت اليه؟ (معظمها أنشئ في زمن السلم الأهلي)؟ وكيف ستكون الحال عليه طوال سنوات التنفيذ؟ خصوصاً أنه يمرّ على هذا الأوتوستراد يومياً ما لا يقل عن ثلاثمئة الف سيارة؟ ومتى البدء الفعلي لا الإعلامي لأعمال التوسعة؟
القضية الثانية الشائكة والتي ضاعت فيها الحقيقة على المواطنين، هي قضية مشروع سدّ جنّة... هذه القضية مثال صارخ على اختلاط حابل السياسة بنابل التقارير... والتي تؤكد أنّ المواطن ليس إلّا شاهد زور يُمنع عليه طرح الاسئلة البديهية لاكتشاف حقيقة تطاوله كما تطاول اولاده من بعده. فقضية الأعمال في هذا السد تحوّلت موضوعاً إعلامياً بامتياز من دون أن تُقدّم أيّ جواب حاسم لقضية من المفترض أن يحسم فيها العلم لا السياسة...
فإذا كان مشروع السد خطراَ وغيرَ مجدٍ لماذا وافق عليه مجلس الوزراء؟ ولماذا الاعتراض عليه ارتفع مع بدء الأعمال فيه؟ ومن أعطى الإذن لبدء الأعمال؟ ولماذا الإعلام كان غائباً أو مغيَّباً عن خطر تنفيذه؟ ولماذا لا يلجأ القيّمون على هذا البلد الى مرجع علمي مستقلّ ليقول لنا أين تكمن الحقيقة؟ ولماذا هذا الدفاع المستميت لتنفيذه؟ ولماذا الانقسام حوله بات سياسياً حزبياً مشابهاً لذلك الانقسام حول رئاسة الجمهورية؟
المثلان أعلاه كما غيرهما يؤكّدان أننا لسنا بخير... وأنّ العدوى في النقاش غير المجدي انتقلت من الخلافات السياسية الى القضايا العلمية... ويبدو أنّ الآتي أعظم.