تشهد الجامعة اللبنانيّة، ولأوّلِ مرّة منذ تأسيسها، سنة 1951، مواسمَ ترشيحاتٍ حادَّةٍ لإنتخاب خمسةِ مرشحين، من بين الأربعين دكتوراً من مُسْتَوْفي شروط الأستاذيّة، الذين تَقدّمَوا بترشيحاتهم، وِفْقَ الآليَّة التي أقرّها مجلس الجامعة لتنظيم عملّيةِ الترشيح والإنتخابات، بما يتوافق والقانون 66/2009، الذي يرعى شؤون الجامعة ويُنَّظِّم إدارة شؤونها الأكاديمية والإدارية، على ان يعمل لاحقاً لرفع الأسماء الخمسة الى وزير الوصاية الذي بدوره يرفعها الى مجلس الوزراء وِفقَ الأصول، بهدف تعيين رئيس جديد للجامعة اللبنانية، المُؤَسَّسة الكيانيَّةِ الأكبر عدداً بعد مؤسَّسة الجيش اللبناني...
فَمرّة بعد أُخرى، تُثبِتُ وقائع تنفيذ بنود القانون 66 الناظم لشؤون الجامعة اللبنانية، ان هذا القانون يحمل في الكثير من بنوده وتطبيقاته، مهْلَكةً للمستوى الأكاديمي والبحثي، من حيثُ انه، في فلسفته أشبه بقانون القوّة، وأقرَب الى منطق العدد، الذي يُلغي معه الكبيرُ الصغيرَ، فتضمحلّ القدرات وتموت الطاقات، لصالِحِ الأكثرية التي تبسط سلطتها وتتحكّم بالأقليّة مِزاجِيّاً، لأن منطوق القانون المذكور وروحيّته قتلا روح الاستقلالية الأكاديمية، وكرّسا منطق التسوية التوزيعيّة بين الطوائف ووكلائهِم في الحكومة، بحيث أصبحت بعض الكليات مُلْكيّة خاصة للطوائف، أو أشبه بوَقْفِيَّةٍ اكاديميّة، او مكتب تمثيلي للأحزاب والتيارات، والجماعاتِ الدينيّة ذاتِ البُعْد الإنغلاقي والنظرة الأحاديَّةِ للأمور...
كُلُّ هذا، والجامعة تتعرَّضُ لهجمةٍ متمادية على صعيد الرغبَة القَصْدِيَّةِ (بالتوريث) ومحاولة تنظيم حصر إرث لهذه المُؤَسَّسة الأكاديمية والبحثية، بعدما طاولَها إهمالُ الدولة القصْدِيِّ وحوَّلها الى مُجَرَّدِ ادارة عامّة، موْضوعَةٌ عليها اليَد...
صحيحٌ انه ما كان ذلك هدف ورغبَة واضعي القانون 66، من أكاديميين ونواب تشريعيّين ومثقّفين ونقابيين، أرادوا ان يضعوا قواعد تؤكّد إستقلالية الجامعة، و تُعَزِّز مبدأ وفكرة الديمقراطية التمثيلية في تراتبيتها، من خلال القانون الذي إجتهدوا كثيرا لإصداره تأكيداً لكيانيًّةِ الجامعة ودورها الوطني وخصوصياتها التعليمية ودورها البحثيّ.
لكن الايام اثبتت ان القانون 66 لا يتناسب، بطوباوِيَّتِهِ، مع الواقع اللبناني الجانح بقوّة نحو المَصْلَحِيَّةِ الطائفية والمذهبية، وتقديم العصبيَّةِ على الأكْدَمَةِ والمواطنة والكفاءة، على حساب العلمية الخالصة، التي يجب ان تحْكُمَ العلاقة المأزومة بين السلطة السياسية المُمْسِكة بنواصي الجامعة، وبينَ الأساتذة الذين باتوا يتأمّلونَ بحالِ الجامعةِ، ولا يأملونَ من الواقعِ شأناً كبيراً، قياساً على حالاتِ الإهمال والفسادِ الذي يتأصَّلُ في سلوكاتنا الشعبيّة والحكوميّة، كلّ يومٍ أكثرَ من سابقِهِ...
يقودنا هذا الكلام الى سؤالٍ محوريّ حول الامور التي تُطْرَحُ عند الإصطدام بمشكلة اكاديميّة او ادارية، وكيفية العمل لإيجاد حلولٍ لها تتوافق والقانون المعمول به، خصوصاً و أن مندرجات القانون 66 تحدُّ كثيراً من سلطةِ وفَرْدِيَّةِ القرار المُناطِ بالرئيس او العميد، وتفرض قيوداً دقيقة في عملية الترشُّح والتعيين لمناصب الرئاسة والعمادة والإدارة ورؤساء الأقسام الأكاديمية، بما يمكن ان ينعكس في بعض الحالات، إذا ما أُسيءَ التعاطي مع روحيّةِ القانون، إجحافاً بحقِّ الأشخاص الذين ينتمون الى طوائف ومذاهب معيّنة، متى غابت ظروفُ التوافقِ الوطني والوعي الاجتماعي، والشعورُ بالحِسِّ الأكاديمي الوطني، عن انتاج ظروف سليمة تمكِّنهم من الوصول الى مراتب عليا، ادارية او اكاديميّة، وتحديداً في الحالات الإستثنائية والمرفوضة التي لا تُراعى فيها مقتضيات المصلحة الوطنية، من حيث صحة التمثيل التوازنيِّ بين مكوِّنات المجتمع من جهة، ومستوى الشخص ورصيده الأكاديمي من جهة ثانية.
وهذا ما يطرح فِعْلاً، في هذه الفترة الإستثنائِيَّةِ والحَرِجةِ من مسيرة الجامعة، حيث بعد أقلّ من سنتين على صدور مراسيم تعيين العمداء، بتوزيعةٍ سياسو-طائفية، يظهرُ اليومَ موضوعٌ شائِكٌ على مستوى ملِء مراكز ثلاثة عمادات، شغَرَتْ بسبب إحالة عمداء معهد العلوم الاجتماعية، والآداب، والمعهد العالي للدكتوراه للاداب والفنون، فضلاً عَنْ قُرْبِ إنتهاءِ ولاية الخُمْس سنواتٍ لرئيس الجامعة، الأمر الذي يستوجب العمل الإستدراكِيِّ لمعرفة كيْفيَّةِ تسيير المرفق الأكاديمي والاداري للرئاسة وللكليات الثلاث، من خلال مخارج قانونية سليمة لا يشوبها نزاعٌ أَوْ إختلافٌ على تفسيرِ النصوص الناظمة لهذه الحالات.
والمأمولُ في هذه الحال كان صدور مرسوم تعيين ثلاثة عمداء جُدُدٍ وفق الأصول من مجلس الوزراء، بناء على ترشيحات القانون 66، حتى يكْتَمِل عقدُ مجلس الجامعة من جديد وبشكلٍ كاملٍ، بحيث يشارك الكلُّ في إنتخاب رئيسٍ جديدٍ للجامعة، لا أنْ نصِلَ إلى زمن الإنتخاب الترشيحيِّ، وهناك ثلاثةُ عُمداءٍ بالتكليف، لا يحقُّ لهم ممارسة الواجِبِ الإنتخابي، بسبب عدم تعيينهم بمرسوم، فضْلاً عن تغييبِ الكُلِّياتِ المذكورة عن مسؤولية المشاركة، بإِنتخاب المُرَشَّحينَ للرِئاسة...
والمسألة التي ستترك ندوبها الدامغة على صورة الجامعة وهيبتها ومستواها الأكاديمي، هي: هل ان التوزيعات الطائفية والمذهبية التي تمت مراعاتها في التعيينات السابقة، منذ سنتين، ستفرض المجيء بأشخاص معينين في العِماداتِ الثلاث، لمجرّد انتمائهم الطائفي والمذهبي، من دون النظر الى مستواهم الأكاديمي ورصيدهم البحثي؟ وكيف سيتِمُّ تغليبُ معيارٍ على آخر؟!
إنها فعلاً مأْثرَةٌ فاضِحةٌ مَنْ تداعياتِ قانون 66 الذي يطيبُ لكثيرينَ تشبيهه تَفَكُّهاً وإنتقاداً بـ(إتفاق الطائف)، نظراً لِمَظْلومِيَّتِه وما يحمله في تفسيراته وتطبيقاته من كَثيرِ إجحافاتٍ على مستوى إنتقائِيِّةِ التطبيق وكيْفِيَّةِ التعاملِ مع النصوص وروحيّتها...
وهذا ما يطرح بقوّة مدى صلاحية القانون 66 ليكون ساحة للتفاعِل الأكاديمي والوطني، وحَيِّزاً للعدالة الاجتماعية والتوازن الوطني، والإستقلاليّة المؤسّساتيّة، عند طَرْحِ شأنٍ إداريٍّ ومِحْوَرِيٍّ مُلِحٍ، هو إنتخابُ وتعيينُ رئيسٍ جديدٍ للجامعة، تنبثقُ شرعيّته من القاعدة الأكاديمية، بكلِّ معانيها وهرميِّاتها، وتحترمُ الأصول وتحافظ على كرامة المُؤَسَّسة وهيْبتها...
والخوفُ، وكُلُّ تخوُّفٍ، هو حِسٌّ مشروعٌ، هو في أنْ تتجاوزَ السلطةُ السياسيّةُ القوانينَ الناظمة، لتعيين رئيسٍ جديدٍ للجامعة، وأنْ تُسَمِّي رئيساً من خارج أَهْلِ الجامعة، وَمِن خارج لائحةِ الترشيحات المرفوعة وِفْقَ الأصول القانونيّةً، بِحِجَّةٍ أَوْ من دونِ حِجَجٍ وذرائِعَ تُبيحُ المحظوراتِ في زَمَنِ التفلُّتِ والإقتتالِ على المغانِمِ، ودائماً على حساب المستوى الأكاديمي والهيبة البحثية، التي يُفْترضُ أنْ يتَّصِفَ بها الرئيسُ العتيدُ لِهذِهِ المؤَسَّسةِ الكِيانِيّة.
والأسئِلةُ التي ترتسمُ بقوَّةٍ في فضاءِ الجامعة وحولَ مسار الرئاسة ومصير الجامعة، هي:
1- ماذا لَوْ لَمْ يؤخَذْ بلائِحةِ الترشيحات المرفوعة من مجلس الجامعة، وتمَّ تجاوزها وتعيينُ رئيسٍ ليسَ لمجلس الجامعة رأيٌ بإختياره؟
2- ماذا لَوْ تمَّ تعْيينُ شخصيَّةٍ من قطاعٍ إداريٍّ آخر رئيسا للجامعة؟
3- ماذا لَوْ وصلنا الى تاريخ نهاية ولاية الرئيس عدنان السيّد حسين في 13 تشرين الاول 2016، وَلَمْ تَكُنْ الحكومةُ عيَّنَتْ بعْدُ رئيساً أصيلاً للجامعة؟
4- ما هو الموقِفُ القانونيُّ الذي سيأْخذه الرئيس الحالي، بعد إنتهاء ولايته، وعدمِ بلوغهِ سِنَّ التقاعد؟
5- ما هي الإجْتهاداتُ القانونية والفذْلكاتُ الإداريّة التي تحكمُ هذه الحال؟
6- أيُّ دورٍ سيضطلعُ بهِ وزيرُ التربية، كوزيرِ وصايةٍ، عِنْدَ إحتدامِ التفسيراتِ المتعلِّقة بشرحِ مُصْطَلَحِ (الغياب) ومُصطلح (الشغور)، في موضوعِ (تسيير المِرْفقِ العام)، والحفاظ على الإستقرار الأكاديمي والاداري للجامعة؟
7- أينَ تَكْمُنُ مسؤوليّةُ رئيسِ الجامعة، في تأمين إستمراريّةٍ قانونيّة لتسيير هذا المِرْفقِ الوطني والهامّ في هذه اللحظاتِ الإستثنائِيَةِ من حياة الوطن وعمرِ الجامعة؟ بماذا يتسلّحُ هُوَ؟ وبماذا يستقوي غَيْرُه من أصحابِ الرؤى الأخرى؟
المهمُّ أن تبقى الجامعة الوطنيّة، حتى يبقى لنا وطنٌ... وكُلُّ الباقي تفاصيل يسكُنُها جِنْسٌ غريبٌ من الشياطين...
لكنَّ الخوفَ أنْ يتِمًّ تفصيلُ رئيسٍ للجامعة على قياساتٍ غير أكاديميّة، تُغَلِّفها السياسة، ويحْكمُها مَنْطِقُ التبعِيَّةُ والإمعانُ في الإستلحاقاتِ الطائفيّة والسياسية الضيِّقة.
عندئِذٍ، لا سمحَ الله، سنَصْفِنُ مَلِيّاً و سنقول: (نعوذُ بِاللَّهِ)... وسنتَهيَّأ لعصرٍ جديدٍ من الفدراليات الإدارية، أَوْ لزمنٍ مُمْتدٍ من النزاعات التي تضربُ مفاصِلَ الوطن...
ودائمًا: لا سمحَ الله...