لم يعد يكفي أن عملاء العدو يحاولون جاهدين جعل جرم التعامل مع العدو بمثابة وجهة نظر، بل صار عندنا في البلاد سلطات عامة، مثل القضاء، فيها من يحرص على ماء وجه العملاء، بدل الحرص على دماء عشرات آلاف ضحايا الاحتلال وضحايا العملاء.
بالأمس، قرر قاضٍ، لأسباب نصية، أنّ حسن عليق، الذي احتجّ، ولا يزال، على طريقة تعامل القضاء مع جريمة تعامل فايز كرم مع العدو، إنما يرتكب جناية تستحق توقيفه وسجنه، وربما حبسه لمدة تتجاوز مدة سجن المدان بالتعامل مع العدو. والأنكى أن تخرج وسيلة إعلامية مثل «الأو. تي. في» تصف القرار بأنه استعادة لحق المدان بالتعامل، ولكرامته!
مهازل لبنان لا نهاية لها. ومع ذلك، على الناس التحمل والصبر. لكن، هل من عاقل يعتقد بأن المنطق والحق والكرامة وإرث الشهداء، تسمح بترك حاكم ما، أي حاكم، ينفذ حكماً عشوائياً، قوروشياً، بحق شخص، قال بأقل الكلمات قساوة، إن الحكم الذي نفذ بحق مدان بالتعامل، إنما هو خطوة تشجع على العمالة، وثأر لكرامة أهله وأبناء بلده، داعياً إلى الاقتصاص من العميل المذكور؟
ليس هناك من حاجة إلى كثير من الكلام. والأقل منه، يسمح لي، وبصفتي رئيساً لتحرير «الأخبار» ونيابة عن غالبية زملائي في المؤسسة، بعد حفظ حق من لا يوافق على الأمر، من الذين لا يقبلون أصلاً المسّ بزميل لهم، أعلن تبني «منشور» الزميل عليق الذي نشره على صفحته على موقع الفايسبوك، والذي جاء فيها حرفياً:
«في عميل اسمه فايز كرم، رفع دعويين قضائيتين على «الأخبار» وحدة على «الأخبار»، ووحدة على الزميلة رلى إبراهيم، لأنو «الأخبار» وصفتو بالمحكوم بجرم التعامل مع العدو الإسرائيلي، ولأنو انتقدنا القضاء الذي يتساهل في إطلاق سراح العملاء. المشكلة أننا صمتنا. نحن، أي الناس. صمتنا على الحثالة التي تحكمنا وتحكم باسمنا. المشكلة فينا، وفي كوننا نقبل بأن تستمر الحياة على طبيعتها.
هناك عصابة في هذا البلد، وهي نافذة جداً، في الدولة، في الأجهزة الأمنية، وفي القضاء، وفي كل مكان. وهي التي تتولى إطلاق العملاء وتخفيف الأحكام الصادرة بحقهم. مع هؤلاء، لا حل سوى القتل. القتل والسحل في الشوارع. سوف يخرج من يقول لي كيف تستعمل هكذا لغة، أنت صحافي وكل هالأكل الهوا. بدّن يانا نشوف حسن مشيمش، قاعد بأول صف، وفي قرطة حاقدين على المقاومة عم تزقفلو وبدها تفرض علينا ما نقول الحق، لا حبيبي. عميل حقير بشهادة فرع المعلومات كمان.
عملاء تافهون. فليخرجوا على الملأ وليعلنوا توبتهم بذل، وليزوروا أهالي الشهداء فرداً فرداً (من اليابان إلى تشيلي) والجرحى جريحاً جريحاً، والمقاومين واحداً واحداً، والذين تهدّمت بيوتهم والذين تضررت منازلهم بقصف العدو، ومن تأذوا نفسياً من العدوان الصهيوني، وليسألوهم الإذن بتقبيل أحذيتهم التي تشرّف رؤوسهم، وبعدها، فلينفوا أنفسهم لننساهم. نسامحهم بطريقة واحدة، إذا استشهدوا في قتال العدو، أو سعوا حقاً للاستشهاد. طالما أنهم بيننا، وبوقاحة، فسنبقى نذكّرهم بحقيقتهم الحقيرة: عملاء تافهون، ولا يفوقهم حقارة إلا من يدافع عنهم ومن يعمل لإطلاقهم. ولا يستحقون إلا القتل. القتل ولا شيء إلا القتل. عم إحكي عن عملاء إسرائيل، ومش عن حدا غيرهم».
وبناءً عليه، فإن من واجب القضاء، إذا كان يفترض أن ما قام به القاضي فريد عجيب، أمراً محقاً، أن يتحرك، ويلاحق أسرة «الأخبار» بنفس التهمة، وأن يصدر أيضاً قراره الظني مع مذكرات توقيف وجاهية، هذه المرة، لربما يستقيم الأمر، بحسب ما رأى القاضي الذي اعتبر ما نشره حسن بمثابة تهديد جدي ومباشر بالقتل.
ولو حصل ذلك، فإن ما يهمنا بالتأكيد هو أن سلطة عامة في لبنان، تمنح محكوماً بالتعامل مع أهم أعداء لبنان، حق التصرف وكأنه كان قد سرق دراجة هوائية، وعوقب على فعلته، ثم صار يحق له القيام بما يريد، فإن هذه السلطة، لا يمكنها أن تستقيم، بغير انتفاضة عامة، ترسم لمرة أخيرة، إطار الهوية الوطنية. وتعيد الحق الفعلي لضحايا عملاء العدو من الذين ارتكبوا الجرائم الموصوفة، قتلاً واعتقالاً وتعذيباً وتشريداً وسرقة، بحق عشرات الألوف من اللبنانيين، الذين ارتضوا غضّ الطرف، فقط من أجل تحويل الانتصار على العدو وطرده إلى مناسبة لإعادة انتظام الناس في سياق وطني عام. وهذا الحق هو ملاحقة ومطاردة العملاء المجرمين، والخونة، ليس فقط أمام القضاء اللبناني، بل أمام كل قضاء متاح في العالم، والأهم، أمام المحاكم الأكثر عدالة والأكثر حزماً وصرامة، وهي محاكم الشعب الذي انتزع حريته واستقلاله بدمه وعرقه، وهي المحاكم التي تعرف إليها كل شعوب الأرض وهي تخوض معارك الاستقلال.