من المفترض أن يفتح الهجوم الإرهابي الأخير، الذي نفذ في مدينة نيس الفرنسية، الباب أمام جملة من التساؤلات الضرورية، لفهم حقيقة ما يجري على مستوى العالم، فالإجراءات الأمنية المتخذة في أغلب الدول أثبتت أنها غير قادرة على حماية العشرات من المواطنين من عمليات القتل الجماعي، وبالتالي من المفترض البحث عن حلول جديدة بأسرع وقت ممكن، بالرغم من أن هذا الأمر ليس بالسهولة التي يتصورها البعض، ولا يمكن أن يحصل خلال أيام أو أشهر قليلة، وبالتأكيد الرد عليه لا يكون عبر إنتاج تطرف مقابل.
اللافت في الهجوم الإرهابي في مدينة نيس، هو عدم إستخدام المهاجم لأي سلاح حربي أو متفجرات، هو إختار أن يكون التنفيذ عبر دهس شاحنة حشد من المواطنين، كانوا يشاركون في احتفال بالعيد الوطني الفرنسي، على مسافة تصل إلى نحو كيلومترين، بحسب ما ذكرت مصادر الشرطة الفرنسية التي قتلت السائق، فهل كان هناك من إجراءات قادرة على منع حصول هذه العملية؟
الجواب على هذا السؤال الأساسي، من المفترض أن يكون عبر قراءة ما حصل بدقة، خصوصاً لناحية هوية المنفذ الذي يحمل أوراق إقامة فرنسية، ما يعني أن القضية غير مرتبطة بحركة المهاجرين غير الشرعيين بصورة مباشرة، حيث أن الجماعات المتطرفة لديها عناصر وأنصار من أبناء الدول الغربية أيضاً، وهم في السابق كان يختارون الإنتقال إلى أرض المعركة، لا سيما في سوريا والعراق، أملاً بالوصول إلى "الجنة" الموعودة، لكن التعليمات الحالية هي تنفيذ هجمات داخل الدول التي يتواجدون فيها لا تستثني أحداً، لا بل أن تنظيم "داعش" الإرهابي دعا قبل أشهر إلى عدم إستثناء المدنيين، ما يؤكد أن الخطر لا يقتصر على رقعة جغرافية معينة بل عابر للحدود، وبالتالي من المفترض أن يسأل المسؤولون الفرنسيون عن الأسباب التي تدفع هؤلاء إلى تنفيذ هكذا أعمال، وإعادة البحث في كيفية التعاطي مع الضواحي التي تنشأ على أطراف المدن الرئيسية، من دون إهمال المراكز الدينية التي تعمل على تحويل هؤلاء إلى إرهابيين، خصوصاً أن أغلبها يحمل تراخيصاً من السلطات الرسمية.
بالإنتقال إلى ما يمكن إعتباره أداة الجريمة، المنفذ لم يستخدم أي سلاح ممنوع على الأراضي الفرنسية، هو أقدم على إستئجار شاحنة فقط، ما يعني أنه لم يحتج إلى وقت طويل يبحث فيه عن طريقة توفير هذه الأداة بطرق صعبة، وهذه الوسيلة لا يمكن أخذ أي إجراءات أمنية تمنع تحولها إلى آلة قتل، فلا يمكن أن تذهب الشرطة إلى منع سير الشاحنات أو السيارات على الطرقات، أو أن تضع قيوداً على الحصول على تراخيص قيادتها، كما أن عمليات التفتيش على الحواجز لا يمكن أن تقدم أو تؤخر، فالمنفذ لا يحمل ممنوعات، في حين أن أقصى ما يمكن القيام به هو الحصول على معلومات مسبقة عن نية المنفذ، عبر أجهزة المخابرات، تسمح بالقيام بما يمنع سقوط هذا العدد من الضحايا، لكن هذا العمل يعتمد في الكثير من الأحيان على عامل "الصدفة"، لا سيما أن المسؤولين عن التخطيط لهكذا هجمات يخصعون لدورات أمنية مكثفة، تحول دون القدرة على كشف ما يخططون له بسهولة.
في الروايات الأمنية، صدرت بعض السيناريوهات منها أن المنفذ كان يطلق النار من سلاح حربي على المحتشدين خلال عملية الدهس، ومنها أن الشاحنة كانت تحمل كمية كبيرة من المتفجرات، لكن الأكيد أن العملية تؤكد مرة جديدة بأن الإرهاب لا يحتاج إلا لشخص مؤمن بما سيقوم به من جريمة، لتصبح الطريقة أمراً من الممكن البحث فيه كي يتأمن من دون أي عوائق تذكر، ما يؤكد أن الوسائل العسكرية والأمنية لا تكفي لمكافحة هذه الظاهرة، وبالتالي من المفترض أن تكون المواجهة عبر التصدي لما يحول الإنسان العادي إلى متطرف، مؤمن بأن لا خلاص لهذا العالم إلا عبر المجازر، أي الأفكار والعقائد التي تشكل العامل الرئيسي في العمليات الإرهابية، بالإضافة إلى الأسباب الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي تجعل من الفرد شخصاً قادراً على التأثر بها بكل سهولة.
في هذا المجال المعركة الأساسية، إلا أنها ليست سهلة على الإطلاق، نظراً إلى أنها تتطلب بذل جهود جبارة على كافة المستويات، الأمر الذي لم يظهر حتى الساعة من قبل أي جهة، في وقت بات فيه من المؤكد أن كل الحملات العسكرية والتحالفات الدولية لن تكون قادرة على القضاء على الإرهاب بشكل نهائي، طالما هو لا يزال يتغذى من منابعه الفكرية والعقائدية، فهل يدرك المسؤولون أن الوقت حان لهذه المواجهة الصعبة التي قد تتطلب تجاوز بعض الخطوط الحمراء؟
في المحصلة، الإدانات والإستنكارات لم تعد تكفي، ولا أحد في العالم قادر على النأي بنفسه عن هذه المواجهة، فالمطلوب بات واضحاً لكن يتطلب القفز وراء لعبة المصالح الإقليمية والدولية، للإنطلاق في المواجهة التي ستكون صعبة وطويلة دون أدنى شك.