حوادث القتل بدم بارد التي يستمر في ارتكابها رجال الشرطة في الولايات المتحدة الأميركية بحق المواطنين من ذوي البشرة السوداء ليست مجرد أفعال منفصلة أو حالات خاصة شاذة، وإنما هي تندرج في سياق متصل يعكس سياسة مقيمة ومتبعة منذ عقود على الرغم من أن السائد في العلن هو أن أميركا تخلصت من نظام التمييز العنصري.
وباتت المساواة بين مواطنيها هي القاعدة التي تسود في القانون الأميركي، ويعمل بها دون تفرقة بين أميركي وآخر.
هذه النتيجة أو الخلاصة أكدت من جديد زيف النظام الديمقراطي الأميركي الذي يدعي احترام حقوق الإنسان وأنه الوصفة المثلى التي يجب أن تتبع من قبل دول العالم قاطبة.
فما حصل خلال الأيام الماضية من إقدام رجال الشرطة على قتل شبان سود وما أعقب ذلك من تفجر لموجة من المواجهات مع رجال الأمن استخدمت فيها الزجاجات الحارقة والحجارة وإطلاق نار أظهر مجدداً إلى السطح النار المشتعلة تحت الرماد والتي فجرتها صور فيديو لرجال شرطة وهم يقتلون مواطنين أميركيين من ذوي البشرة السوداء، في مشهد يذكر بمشاهد مماثلة قبل شهور وسنوات وحتى عقود.
على أن مقتل خمسة ضباط شرطة وجرح سبعة آخرين برصاص القنص في دالاس خلال تظاهرة منددة بعنف الشرطة شكل تطوراً خطراً في مسار الأحداث الحاصلة في أميركا على خلفية تمادي رجال الشرطة في ممارساتهم التعسفية والعنفية ضد السود وعدم إقدام القضاء على الاقتصاص منهم.
فعندما تنعدم أو تغيب العدالة ويطبق القانون بشكل منحاز لصالح القاتل على حساب الضحية، وعندما يسود اليأس من القضاء من البديهي أن يولد ذلك مناخاً يشجع على العنف المضاد ضد رجال الشرطة.
ومثل هذا المناخ هو ما عبر عنه ميكا جونسون، جندي احتياط في القوات البرية الأميركية خدم في أفغانستان، عندما قال، بعد أن قتل رجال الشرطة وقبل أن يفارق الحياة، أنه مستاء من حوادث إطلاق النار التي نفذتها الشرطة في الآونة الأخيرة وهو مستاء أيضا من أصحاب البشرة البيضاء ويريد قتلهم ولا سيما ضباط الشرطة منهم انتقاماً للسود الذين قتلوا برصاصهم.
وتكرر الأمر خارج محكمة في ولاية ميشيغان عندما أقدم سجين، كان ينقل من مكان احتجازه إلى محكمة بيرين، على انتزاع مسدس أحد رجال الشرطة واطلاق النار على رجال الأمن ما أدى إلى قتل اثنين وإصابة ضابط ومدني.
هذه التطورات طرحت التساؤلات بشأن الأسباب الفعلية المولدة للعنف، وعما إذا كانت أميركا أمام عودة إلى مرحلة الاستقطاب الحاد في المجتمع الأميركي على غرار ما ساد في الستينات من القرن الماضي.
أولاً: إن الأسباب الفعلية التي تقف وراء هذا العنف المتجدد تكمن جذورها في:
1 ـ استمرار سياسات التمييز العنصري داخل مؤسسات النظام الأميركي، لاسيما القضائي منه، والذي يبدو أنه لم يتخلص من آثار وسياسات الحقبة العنصرية التي ساد فيها التعامل مع السود كعبيد يعملون عند البيض الأغنياء ولا يتمتعون بأي حقوق إنسانية، ومثل هذه السياسات تجسدت بوضوح في عدم إقدام القضاء على انزال العقاب بحق رجال الشرطة المدانين بقتل سود، والقيام بإطلاق سراحهم، مما شجع هؤلاء على الاستمرار في ممارساتهم السادية بحق السود وبالتالي تكرار جرائمهم في قتل شبان منهم.
وما يؤكد استمرار تجذر هذه السياسات العنصرية هو أنها تحصل في ظل حكم الرئيس باراك اوباما الذي ينتمي إلى أصول أفريقية، والذي عكست تصريحات مدى عجزه في ردع رجال الشرطة ومطالبته السود بالانضباط وعدم الانجرار إلى أعمال العنف بغية تكوين رأي عام أميركي لأجل إحداث تغيير حقيقي.
2 ـ واقع الفقر الذي يرزح تحت وطأته السود في ظل نظام رأسمالي يفتقد إلى أي عدالة اجتماعية، ويزيد من حدة التفاوت بين الأغنياء والفقراء لاسيما بعد الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت بأميركا سنة 2008 وأدت إلى زيادة الفقراء فقراً والأغنياء غنى.
ثانياً: الواضح أن هناك عدة مظاهر طفت إلى السطح تنذر بعودة أميركا إلى مرحلة شبيهة بمرحلة الستينيات التي بلغ فيها الصراع ضد التمييز العنصري ذروته مع اغتيال القس مارتن لوثر كينغ، وهذه المظاهر تجلت في الأيام الأخيرة بالتالي:
1 ـ تصاعد في عمليات إطلاق النار ضد رجال الشرطة رداً على العنف الذي يمارسونه ضد السود.
2 ـ تزايد المواجهات العنفية بين المتظاهرين والشرطة في العديد من المدن الأميركية.
3 ـ نشوء حركة «أرواح السود مهمة».
4 ـ عودة حزب الفهود السود إلى الظهور من جديد، والذي تأسس سنة 1989 في مدينة دالاس بولاية تكساس وهو يدعو إلى حق تقرير المصير «للأمة السوداء» وإطلاق سراح كل السود من السجون الأميركية، ووضع حد لوحشية رجال الشرطة ضد السود، والدعوة لتشكيل جبهة سوداء موحدة، وإلى حمل السلاح دفاعاً عن النفس.
5 ـ استطلاع للرأي أجري أخيراً أظهر تنامي حدة الاستقطاب داخل المجتمع الأميركي، عندما كشف أن 51 بالمائة من الذين استفتوا أعربوا عن مواقف عنصرية ضمنية ضد السود.
انطلاقاً مما تقدم من الواضح أن تمادي الشرطة في السياسات العنصرية وغياب المساواة والعدالة يؤدي إلى تغذية التيارات المتطرفة والعنف واستطرادا توفير البيئة المواتية لنمو الإرهاب في أميركا، وهذا بدوره يضعف من مكانة أميركا العالمية ويزيد من انحدارها كنموذج يدعي احترام حقوق الإنسان وينصح الآخرين باتباعه، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وأميركا التي تدعو إلى تطبيق الديمقراطية والاصلاح والحرية في دول العالم، تفتقد إلى كل هذه القيم وتنكشف أمام العالم أجمع بأنها دولة قائمة على التمييز العنصري والعبودية في الداخل وعلى الاستعمار والهيمنة في الخارج، ولهذا فإن نظامها خال من أي قيم إنسانية، ولا يصلح نموذجاً للشعب الاميركي فكيف به يكون نموذجاً لشعوب أخرى؟!