بعد الهجوم الإرهابي الجديد الذي إستهدف المدنيّين في مدينة "نيس" الفرنسيّة، خرج خبراء في الشؤون السياسيّة الدَوليّة بسلسلة من الخلاصات التي ستترك آثارها على العالم في السنوات القليلة المُقبلة بدون أدنى شك، وأبرزها:
أوّلاً: إنّ موجة الإرهاب التي تضرب العالم حاليًا مُستمرّة، وهي مُرشّحة للتصاعد والإزدياد بغضّ النظر عن الخسائر العسكريّة والجغرافيّة المتلاحقة لتنظيم "داعش" الإرهابي وسواه من التنظيمات الإرهابيّة في العديد من الدول العربيّة والإفريقيّة والآسيويّة، وذلك لأنّ أسباب التعبئة النفسيّة ومُستلزمات "غسل الدماغ" لتجنيد "الإنتحاريّين" ومُنفّذي عمليّات القتل والإجرام موجودة، من تحريض ديني ومذهبي هنا، ومن قمع عسكري أو سياسي هناك، ومن تباين في النمط الإجتماعي وفي النظرة إلى الحرّية الفرديّة هنالك. وكذلك لأنّ التطوّر النوعي في طبيعة العمليّات لم يعد يستوجب تهريب متفجّرات بكميّات كبيرة أو التخطيط سنوات لتنفيذ عمليّة واحدة، بل يتطلّب توفّر مُنفّذ واحد و"سلاح" بسيط يبدأ بسكّين أو سلاح فردي، ويمرّ بكل ما يخطر على البال من أدوات يُمكن أن تصلح للقتل، وُصولاً إلى العبوات الناسفة وأحزمة التفجير. أكثر من ذلك، إنّ اللجوء إلى مُنفّذين يحملون هويّات غربيّة أو إقامات شرعيّة على الأقلّ، يجعل من المُستحيل وقف هذه الهجمات بسحر ساحر.
ثانيًا: إنّ أوروبا والعالم الغربي عمومًا يتّجهان شيئًا فشيئًا نحو التشدّد والتعصّب مُجدّدًا، والخط البياني التصاعدي لحجم ولمدى سيطرة الأحزاب السياسيّة المُصنّفة في خانة "اليمين المُتشدّد" على الحكومات والمجالس التشريعيّة هي الدليل القاطع على هذا النمط. وهذه الأحزاب، باختلاف تسمياتها، تتوحّد تحت راية التعصّب والإنغلاق والتقوقع القومي، وكذلك تحت راية مُعاداة كل ما هو مُختلف، وأبرز أسباب توسّع شعبيّاتها في السنوات والأشهر القليلة الماضية يتمثّل في:
أ- الخضّات الإقتصاديّة والمالية العالميّة التي أظهرت فشل الأحزاب الحاكمة والتي كانت أغلبيّتها تُصنّف "يساريّة" أو "مُعتدلة".
ب- إرتفاع عدد العمليّات الإرهابيّة التي تضرب العالم بشكل يدفع الفرد أو الناخب الغربي إلى التقوقع، وبالتالي إلى إختيار الشخصيّات "القوميّة" كردّ فعل لا إرادي.
ت- إزدياد وتيرة المُهاجرين واللاجئين بشكل غيّر طبيعة بعض المُجتمعات وضرب ركائزها ومُعتقداتها وأساليب عيشها، وأشعر الكثير من السكّان الأصيلين بعدم الأمان.
ث- رفض مُختلف المُجتمعات للمنافسة غير العادلة على مُستوى اليد العاملة، أكانت من أفراد مهاجرين ينتمون إلى دول من الإتحاد السوفياتي السابق سافروا إلى دول أوروبيّة غربيّة بحثا عن العمل، أو من أفراد مُهاجرين من دول نامية نحو دول متطوّرة بحثًا عن مُستقبل أفضل.
ثالثاً: إنّ الأنظمة الحاكمة في العالم الغربي ستجد نفسها حاليًا مُضطرّة إلى التورّط أكثر فأكثر في الحروب القائمة، وفي الإنخراط تصاعديًا في بقع التوتّرات الأمنيّة والسياسيّة في العالم، لأنّ مجتمعاتها ترفض سياسة تلقّي وعدّ الهجمات الإرهابيّة على أراضيها، وهي تتجه إلى مُحاسبتها إنتخابيًا بشكل أكثر تشدّدًا وقساوة، ما لم تُبادر إلى إتخاذ إجراءات تُوحي ظاهريًا أنّها تُواجه الإرهابيّين أينما كانوا. وهذا يعني توقّع المزيد من الهجمات الدَوليّة ضُدّ التنظيمات الإرهابيّة المختلفة في العالم، وبالتالي تقلّص مساحات سيطرة هذه الجماعات في المُستقبل.
رابعًا: إنّ المعركة على الإرهاب لا يُمكن أن تنتهي بضرب البُنى التحتيّة للتنظيمات الإرهابيّة فقط لا غير، حيث أنّ هذا النوع منها قادر على تجديد نفسه وعلى إستنساخ جماعات أكثر عُنفًا مع الوقت، والدليل ما حصل بعد أكثر من عقد كامل من الحرب الشرسة على تنظيمي "طالبان" و"القاعدة" الإرهابيّين، حيث وُلدت تنظيمات إرهابيّة أكثر تشدّدًا وعُنفًا وإجرامًا، وفي طليعتها تنظيم "داعش". وضرب هذا الأخير، من دون إزالة أسباب نشوئه، ستؤدّي في نهاية المطاف إلى "إستيلاد" تنظيم آخر بتسمية جديدة.
في الختام، لا شكّ أنّ موجة الإرهاب الحالية مُستمرّة في المدى المنظور، وهي ستضرب في أماكن مختلفة من العالم وبأشكال منوّعة، في مُقابل توقّع توسّع وإشتداد الحروب العسكريّة على التنظيمات الإرهابيّة في المستقبل القريب. ولا شكّ أيضًا أنّ أعمال تجنيد الإرهابيّين ستتواصل والبيئة العالميّة مُهيّئة لذلك، في مُقابل توقّع نجاح الأحزاب اليمينيّة المتشدّدة والمتطرّفة في توسيع نفوذها في مختلف أنحاء العالم. والأهمّ أنّ القضاء على "الإرهابيّين" الجُدد لا يُمكن أن يتمّ إلا على يد دول إسلاميّة وجماعات إسلاميّة أخرى، لأنّ أيّ تورّط لدول ولجماعات من أصل مسيحي أو حتى إسلامي من مذاهب غير سُنّية، قد يكون له نتائج ناجحة لمدّة محدودة وضمن مساحة جغرافيّة محصورة، لكنّه عديم الجدوى على المُستوى الواسع والبعيد المدى، وذلك لأنّ الجهات التي تموّل وتسلّح وتدرّب و"تغسل دماغ" هؤلاء الإرهابيّين تتخذ من تدخّل غير المُسلمين السنّة لقتال هؤلاء حجًجًا وذرائع لتجنيد المزيد من الإنتحاريّين. وبالتالي، في إنتظار أن يُقاتل المُسلمون المُسلمين بشكل جدّي وحاسم، لن نشهد في المُستقبل سوى المزيد من القتل والإرهاب، والمزيد من الضربات العسكريّة الإنتقامية، في ظلّ إتجاه عام في العالم إلى التقوقع والتعصّب والإنغلاق والتشدّد.