بغضّ النظر عن الحجم الفعلي لمحاولة الإنقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا، مساء يوم الجمعة الماضي، لا يمكن أن تكون الأوضاع بعدها كما كانت عليه قبلها، لا سيما إذا ما تبين بشكل قاطع أن تحرّك بعض القيادات العسكرية في الجيش، لم يكن من دون دعم جهات خارجية، نظراً إلى موقع تركيا الإقليمي، بالإضافة إلى دورها في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، إلا أن الأكيد أن الرئيس رجب طيب أردوغان سيحاول الإستفادة مما حصل إلى أقصى حد، خصوصاً بعد إلتفاف أغلب القيادات السياسية في البلاد، حتى المعارضة له منها، إلى جانبه.
في هذا السياق، أظهرت هذه المحاولة الإنقلابيّة أن القسم الأكبر من الجيش التركي غير مستعدّ لهذه الخطوة، بالرغم من أن أعداد المشاركين فيها ليست بقليلة على الإطلاق، لكن النقطة المفصلية تبقى في أن الأغلبية العظمى من الشعب غير راغبة بالدخول في المشهد العام الذي يجتاح المنطقة، أي الفوضى الناجمة عن إنهيار مؤسسات الدولة، لا سيما أن أردوغان يملك قاعدة جماهيريّة كبيرة، متمثّلة بحزب "العدالة والتنمية"، تحركت سريعاً بعد أن طلب منها النزول إلى الشارع، الأمر الذي تبيّن من خلال عدم تغطية هذه الخطوة من قبل أي من الأحزاب السياسية المعارضة، بالرغم من خلافاتها العديدة مع أردوغان.
وفي حين يمكن القول أن غياب الحاضنة الشعبية، التي يمكن الإعتماد عليها، كان السبب الأول في فشل الإنقلاب، قد يكون من اللافت أيضاً عدم تبنّيه من قبل أيّ جهة محليّة أو دوليّة، لا بل أن الداعية الإسلامي المعارض فتح الله غولن، المتّهم الأول بالوقوف وراء هذا التحرك العسكري، نفى بشكل قاطع أي علاقة له بالأمر، لا بل أعلن رفضه له، بغض النظر عما إذا كان هذا الموقف يعود إلى عدم نجاح الإنقلابيين أم أنه حقيقة لا يمكن الجدل فيها، لا سيما بالنسبة إلى الدور الخارجي، حيث أن تحرك هذا العدد من ضباط جيش عضو في حلف شمالي الأطلسي، لا يمكن أن يكون من دون معرفة أو غطاء بعض الجهات الدولية.
وبعيداً عن التداعيات المستقبليّة المحتملة لهذا الواقع الجديد، لناحية إضعاف نظام حكم الرئيس التركي أو الإستفادة منه لتدعيم سيطرته على كافة المراكز الحساسة في البلاد، وهو ما ظهر من خلال حملة الإعتقالات الواسعة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية، بالإضافة إلى إطلاق الوعود بالقيام بحملة "تطهير" واسعة، ينبغي التوقف عند نقطة مهمّة على مستوى العالمين العربي والإسلامي، وهي أن أردوغان لا يزال يحظى بمستوى عالٍ من الشعبية، كان البعض يظن أنها تراجعت في الفترة الأخيرة، يعود بالدرجة الأولى إلى الصراع المذهبي القائم على مستوى المنطقة، حيث يتمّ تصويره على أساس أنه الزعيم السنيّ القوي، القادر على الدفاع عن مصالح الملايين من أبناء طائفته، في ظلّ القوّة الكبيرة التي تمتلكها الجمهورية الإسلامية في إيران، مع العلم أن التحالف بين الجانبين قوي ومتين، حيث كانت طهران من أبرز الداعمين له في محنته الأخيرة.
إنطلاقاً من ذلك، يمكن فهم كيف يحظى الرئيس الذي أعاد العلاقات مع إسرائيل إلى سابق عهدها، خلال الأيام الأخيرة، بتهنئة من حركة "حماس" الفلسطينية على نجاحه في إخماد الإنقلاب عليه، كما يمكن فهم الحالة "الهيستيرية" التي كانت تمر بها فصائل المعارضة السورية المسلحة عشية التحرك العسكري ضدّه، بالرغم من أنه كان قد قدم إعتذاراً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يدعم الرئيس السوري بشار الأسد، في حين تعهّد رئيس وزرائه بن علي يلدريم بإعادة العلاقات مع سوريا والعراق ومصر إلى سابق عهدها، فطائفة الرئيس أو المسؤول في المنطقة قادرة على تبرير أي تصرف له مهما كان الثمن، وهو ما تأكد، من خلال حملة التضامن مع أردوغان بما لا يقبل الشك، بعيداً عن أي منطق آخر.
في المحصّلة، ليس الرئيس التركي وحده الراغب في تكريس نفسه زعيماً أو خليفة على العالمين العربي والإسلامي، هناك فئات واسعة من المواطنين والقوى السياسية المتعاطفة معه راغبة في هذا الأمر أيضاً، فهي تجد فيه "المنقذ" من الواقع الذي تمرّ به، بغضّ النظر عن أي أفعال أخرى يقوم بها، حتى ولو كانت تشمل القضاء على الديمقراطية وحريّة الرأي والتعبير، فالمواجهة الطائفية والمذهبية تتقدّم على أي شيء آخر.