بين ليلةٍ وضُحاها، وخلال ساعاتٍ معدودةٍ فقط، "طار" الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان من منصبه، فـ"شمت من شمت"، ثمّ عاد إلى مركز القرار "أقوى ممّا كان"، فكانت "الشماتة" من جديد سيّدة الموقف، لكن هذه المرّة بـ"الشامتين الأوائل".

هو ليس مسلسلاً تركياً طويلاً متقلّب الأحداث والتطورات، بقدر ما هو انقلابٌ سريعٌ لم يُكتَب له لا الصمود ولا النجاح لعدّة أسبابٍ واعتبارات، انقلابٌ كُتِب الكثير عنه وعن حيثياته وملابساته، وصولاً إلى تداعياته المرتقبة على الداخل والخارج على حدّ سواء، هو الذي لم تكتمل فصوله ولا انتهت ذيوله لغاية تاريخه.

ولأنّ للبنان "في كلّ عرس قرص"، كما يقول المثل، لم يتأخّر اللبنانيون في التفاعل مع الحدث التركي منذ اللحظة الأولى، ونسوا شعار "النأي بالنفس" المُعلَن، وكأنّ الحدث يمسّهم بالدرجة الأولى، ليبقى السؤال المحوري، مع كلّ حدثٍ يهزّ الإقليم، أياً كان حجمه: ما هي التداعيات على الداخل اللبناني؟!

طار... لم يطِر

في السياسة، تعدّدت القراءات "اللبنانية" للحدث التركي الذي فاجأ الجميع ليل الجمعة-السبت. للوهلة الأولى، ظنّ الكثيرون أنّ "الحكم المبرم صدر"، وأنّ الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ خرج من "اللعبة"، خصوصًا مع بدء الأخبار بالتوالي عن استلام الجيش للسلطة وسيطرته على العديد من المباني الحكومية، وعن طلب الرئيس التركي اللجوء لدولةٍ من هنا أو من هنالك.

هكذا، ارتأى "رجال سوريا في لبنان" الاحتفال سريعًا بالحدث. يكفي أن يكون أردوغان، المُطالِب دومًا وأبدًا بـ"تطيير" الرئيس السوري ​بشار الأسد​، قد انضمّ إلى لائحة من "طاروا" قبله من قادة من سمّوا أنفسهم يومًا بـ"أصدقاء سوريا"، من أجل "الابتهاج". لا ضرورة بالنسبة لهؤلاء لـ"التعمّق" في "التحليل" حول عدم توافر مقوّمات "الانقلاب" في الحالة التركية، ولا في كونه لا يمتّ إلى "الديمقراطية" بصلة، وإن كان نظام أردوغان نفسه لا تربطه بها أيّ علاقة هو الآخر. المهمّ أنّ الرجل "طار"، وفي ذلك رفعٌ للمعنويات لا يضاهيه شيءٌ، خصوصًا أنّه أتى مفاجئًا، دون أيّ "مقبّلاتٍ" من شأنها التمهيد له.

ولكن، على قاعدة "الفرحة التي لم تتمّ"، سرعان ما خاب أمل هؤلاء، مع بدء تكشّف المعطيات التي أكّدت أنّ "الانقلاب أُجهِض في مهده"، وأنّ الرئيس التركي عاد إلى موقعه كـ"الإمبراطور"، مستقويًا بحراكٍ شعبي أثبت ولاءه لـ"السلطان"، حتى في وجه "الجزمة العسكرية". هنا، بدأت "الفرضيات" و"النظريات" تتوالى، لعلّ أهمّها أنّ الانقلاب لم يكن سوى "مسرحيّة" تشبه في أقصى الأحوال "تمثيلية سفينة مرمرة" الشهيرة، من بطولة وإخراج الرجل نفسه، أي رجب طيّب أردوغان. وعلى الرغم من "هشاشة" هذه النظرية ومكامن ضعفها الكثيرة، فإنّ أصحابها "نبشوا" مقولة لميكافيللي لإعطائها بعض "المصداقية"، يقول فيها: "إذا أردت أن تقضي على الخونة وأن تبرز قوتك للجميع، إخلق إنقلاباً وقم بالقضاء عليه"، محاولين الإيحاء بأنّ هذا ما فعله أردوغان، أولاً وأخيراً.

تباين بريء؟!

وإذا كان موقف المحسوبين على النظام السوري في لبنان طبيعيًا، خصوصًا أنّ "ليلة الانقلاب" حملت أخبارًا كثيرة عن "احتفالات" بدأت تعمّ المناطق السورية ابتهاجًا بـ"الانقلاب التركي"، فإنّ "المفارقة" التي يمكن تسجيلها أنّ اللبنانيين اختلفوا في قراءة الحدث وأبعاده، حتى في داخل كلّ معسكرٍ، ممّا كان يسمّى حتى الأمس القريب بقوى الثامن والرابع عشر من آذار.

ففي حين تفترض "البديهيّات السياسية" أن تكون مواقف "الآذاريين" رافضة جملةً وتفصيلاً للانقلاب على "الحليف المفترض"، خرج من رحم هؤلاء من يهلّل للحدث في لحظاته الأولى، ربما على طريقة "ركوب الموجة الانقلابية"، وهي الطريقة التي أظهر اللبنانيون "تفنّناً عالياً" فيها على مدى العقود القليلة الماضية. وقد ربط الكثير من هؤلاء هذا الموقف بانتماء النظام الأردوغاني إلى "​الإخوان المسلمين​"، ليعني سقوطه سقوط آخر "جناح" للتنظيم الإسلامي في المنطقة، بعد انهيار كلّ بنيانهم في مصر، علمًا أنّ القوى "الآذارية" لطالما تفاخرت بتحالفها مع "​الجماعة الإسلامية​" التي لا تخفي "ارتباطها العضوي" مع "الإخوان"، والتي لم تتأخّر أصلاً في تنظيم المظاهرات "التضامنية" مع أردوغان، تنديداً بمحاولة الانقلاب عليه.

وإذا كان "تيار المستقبل" نفسه وقع في "حفرة" التباين، بعد خروج بعض الأصوات المفترض أنّها تمثّله للترحيب بالانقلاب، ربطاً بالموقف السعودي "الملتبس" في بادئ الأمر بحسب كثيرين، فإنّ ضفة قوى الثامن من آذار في المقابل لم تكن "محيَّدة" بالكامل عن مثل هذا التباين. فعلى الرغم من الموقف "العاطفي" المعروف من أردوغان، خرج البعض من داخل هذه القوى ليعبّر عن موقفٍ أكثر "اعتدالاً"، بحديثه عن "المصادفة" بين توقيت "الانقلاب" و"التحوّل" في السياسة التركية الذي بدأ يتكشّف تباعًا من خلال "الانفتاح" على روسيا وطيّ صفحة "إسقاط الطائرة"، وصولاً حتى "الرسائل المبطنة" إلى نظام الرئيس بشار الأسد وإمكانية التعاون معه. وانطلاقاً من هذه المعطيات، رأى البعض أنّ هذا "الانقلاب" قد يكون له دلالات غير إيجابية.

أيّ تداعيات؟!

وسواء كان الانقلاب التركي الفاشل "مسرحيّة ذاتية" أو "جرس إنذار" ارتأى البعض في الغرب توجيهه للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فإنّ ما تُجمِع عليه القراءات اللبنانية "المتباينة" هو أنّ لا تداعيات مباشرة له على الساحة اللبنانية، لا من قريبٍ ولا من بعيد، وهو ما لم يكن مطروحًا أصلاً حتى لو نجح، لأنّ الازمات الداخلية العالقة باتت مرتبطة بما هو أكبر منها بكثير، وبالتالي لا يمكن أن تنفرج بمجرّد انقلابٍ في تركيا أو غير تركيا، مهما بلغت نسبة نجاحه.

لا تداعيات مباشرة إذاً، ولكن ما من شكّ أنّ التداعيات "غير المباشرة" مطروحة على الطاولة بقوّة، خصوصًا من خلال الأزمة السورية التي ترتبط أحداث لبنان بها عضوياً رغم سياسة "النأي بالنفس" المُعلَنة، والتي يُقال أنّها قد تكون "مسرحًا" لـ"ترجمة" نتائج الانقلاب، إما في هذا الاتجاه أو ذاك، وقد تكون معركة حلب التي يكثر الحديث حولها "بيت القصيد"، انطلاقاً من الموقف التركي "المستجدّ".

وإذا كان الأكيد أنّ أردوغان "استفاد" من "الانقلاب" عليه، فإنّ بعض المواقف الغربية ولا سيما الفرنسي من أنّ ما حصل لا يجب أن يكون "شيكاً على بياض" له، قد تساهم في "فرملة" الاندفاعة التركية غير المسبوقة، ولذلك فإنّ "السيناريوهات" المطروحة تتباين، بين احتمال أن يواصل أردوغان "انفتاحه"، أو أن يعيد الأمور لـ"نقطة الصفر"، مستثمرًا "الانتصار" الذي يوحي أنه حقّقه اليوم.

موت سريري...

بطبيعة الحال، يبدو لبنان بموقع "المراقب" للحدث التركي المفاجئ شكلاً ومضموناً، من دون أن يرتقي لموقع "الفاعل" أو حتى "المفعول به" بنتيجة ما حصل، باعتباره بعيدًا نسبيًا عن تداعياته، سواء التي بدأت بالظهور، أو تلك التي تبقى مرتقبة.

ولكن، وبالانتظار، يبقى شيءٌ واحدٌ وأكيدٌ رسّخه الانقلاب التركي في الساحة اللبنانية، يتعدّى "الجنون" الذي أظهره اللبنانيون بالتفاعل والحماسة لكلّ شيء يحصل في المحيط القريب والبعيد، بل يصل لحدّ تكريس "الموت السريري" لكلّ الثوابت والأولويات السياسية، وهو ما أكّده "اختلاط الحابل بالنابل" في القراءات، ليس فقط بين الفريقين الأساسيين، بل حتى داخل كلّ فريق وربما كل ّتيار على حدة!