ليس سرًّا أنّ العلاقات الإيرانيّة-السعوديّة متدهورة منذ عقود، وخاصة منذ إطاحة نظام الشاه محمد رضا بهلوي في العام 1979، وتحوّل إيران من نظام ملكي إلى "جمهوريّة إسلاميّة" يقودها عمليًا "وليّ فقيه"(1)، وشروعها فورًا في محاولة تصدير "ثورتها" إلى دول المنطقة. وليس سرًّا أيضًا أنّ الحرب العراقية-الإيرانيّة التي إستمرّت طوال ثمانينات القرن الماضي(2) شكّلت مواجهة غير مباشرة بين إيران من جهة، ودول الخليج التي موّلت نظام الرئيس العراقي المخلوع صدّام حسين من جهة أخرى. واليوم، ومنذ إندلاع الحرب السورية في آذار 2011 حتى اليوم، تتواجه إيران مع دول الخليج، وخاصة مع المملكة العربيّة السعوديّة في ما يُمكن إعتباره "الحدائق الخلفيّة" لكل منهما. فهل يُمكن أن تؤدّي هذه المُواجهة إلى حرب مباشرة بين الطرفين، كما تحمل الكثير من التهديدات التي سمعناها أخيرًا، خاصة من الجانب الإيراني؟
لا شكّ أنّ العلاقات الإيرانيّة-السعودية تمرّ حاليًا في مرحلة شديدة التأزّم، تجاوزت مسألة قطع العلاقات الثنائية إعتبارًا من مطلع العام الحالي، حيث بات التدخّل لصالح حلفاء كلّ من الطرفين واضحًا وصريحًا وعلنيًا. لكنّ كل التقارير والتحليلات الغربيّة الخاصة بالشرق الأوسط والدول العربيّة والخليجيّة، تُجمع على أنّ لا خطر من إندلاع مواجهات مُباشرة بين طهران والرياض، ومن تهديدات السقف العالي بينهما، وذلك لأنّه لا يُمكن أن تقع أيّ حرب مباشرة بين الفريقين من دون أن تترك إنعكاسات خطيرة على صعيد الإستقرار الأمني الإقليمي، وعلى صعيد الإستقرار المالي العالمي، خاصة بالنسبة إلى القطاع النفطي، ما يجعل دول العالم أجمع معنيّة بابقاء سقف المواجهة الحالية مضبوطًا وتحت السيطرة. لكنّ هذه التقارير والتحليلات نفسها لا تستبعد إطلاقًا، لا بل هي تتوقّع، تصاعد المُواجهات غير المباشرة بين إيران والسعودية، والتي ما ان تتراجع في مكان حتى تستعر في مكان آخر. وجاء في هذه التقارير والتحليلات أنّ ساحات الصراع الدموي غير المباشر متعدّدة ومتفاوتة درجة الخطورة، وهي تشمل سوريا واليمن بشكل خاص، مع تسجيل مُحاولات إيرانيّة لوضع اليد بالكامل على العراق عبر ميليشات مُسلّحة موالية لها، ولنقل التوتّر والمشاكل إلى البحرين منذ سنوات وإلى السعودية نفسها في الماضي القريب. وقد قابلت الأخيرة ذلك، بتوجيه رسائل غير مُباشرة إلى إيران تؤكّد قدرتها على خلخلة الإستقرار الأمني داخل إيران في حال التمادي بخلخلة الإستقرار الأمني في السعوديّة. وفي هذا السياق، شكّل تجمّع التاسع من تمّوز الحالي في باريس، لعدد كبير من الشخصيّات الإيرانيّة المُعارضة، خطوة تصعيديّة إضافيّة بين الرياض وطهران، نتيجة المُشاركة العلنيّة للأمير السعودي تركي الفيصل، رئيس جهاز الإستخبارات السعودي السابق، وسفير السعودية السابق لدى كل من بريطانيا وأميركا، في مؤتمر حركة "مجاهدي خلق" الإيرانيّة المُعارضة(3) التي تعتبرها إيران "حركة إرهابيّة".
والتطوّر النوعي الذي حصل في الأيّام الماضية تمثّل في تصاعد العمليّات الأمنيّة ضد مصالح إيران الإستراتيجيّة، لجهة قيام "كتيبة الفاروق" التابعة لما يُسمّى "المقاومة الوطنيّة الأحوازيّة" بأكثر من تفجير إستهدف أنابيب النفط في منطقة "جحر السبع"(4)، علمًا أنّ منطقة الأحواز تُشكّل مصدر التمويل الرئيس لاقتصاد الدولة الإيرانيّة، والكثير من سُكانها يعتبر أنّ إيران إحتلّت هذه المنطقة الخاصة بالشعب العربي الأحوازي، وبعض الجماعات المُسلّحة في الأحواز يُنفّذ دوريًا هجمات ضدّ القوى الرسميّة الإيرانية في المنطقة. وفي الوقت الذي لا يُوجد فيه إحصاءات رسميّة إيرانيّة بشأن التعداد السكّاني، تؤكّد مصادر غربيّة أنّ نسبة تزايد السكّان السنّة في إيران تفوق نسبة تزايد السكان الشيعة، وأنّ عديد أتباع المذهب السنّي في إيران ليس 9 % كما جاء في تقرير لوكالة الإستخبارات الأميركيّة في العام 2012، بل هو فعليًا ما بين 15 إلى 20 % من إجمالي السكّان. وهم أصبحوا يتحرّكون بجرأة أكبر من أيّ وقت مضى ضد عمليّات الإعتقال في صفوفهم، مع تسجيل إرتفاع في نسب الإعدامات التي تُنفّذها السلطات الإيرانيّة بحق هؤلاء السكان الذين يعتبرون إيران دولة محتلّة لأراضيهم بسبب غناها بالنفط والغاز.
في الختام، الملاحظ أنّ ساحات المُواجهة بين إيران والسعودية آخذة بالتوسّع تدريجًا، ومنها ساحات مواجهة سياسيّة وشدّ حبال كما يحصل في لبنان مثلاً، في ظلّ لعب مُتبادل على الوتر المذهبي، ولو في ظلّ نفي دائم لهذا الأمر. والأكيد أنّ الفريقين يحاولان إمتلاك المزيد من أوراق الضغط المُتبادلة، لإستخدامها كلّها عندما يحين موعد التسويات الكُبرى للمنطقة. لكنّ كل الخطورة في أن تخرج المُواجهات المُتنقّلة في "الحدائق الخلفيّة" لهما عن حدود السيطرة، وأن تعمّ الفوضى المزيد من المناطق والدول في المنطقة، بسبب هذا الصراع القديم-الجديد على الزعامة الإقليميّة، مع كل خلفيّاته المذهبيّة والعرقيّة والعقائديّة، إلخ.
(1) يُعتبر روح الله الخميني، الذي قاد "الثورة" ضد الحكم الملكي في إيران، مؤسّس "الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة"، وهو تسبّب بنقل إيران من حليف قوي للغرب في المنطقة، إلى عدوّ وخصم للدول الغربيّة على مدى ثلاثة عقود ونصف، وتحديدًا حتى توقيع "الإتفاق النووي" منذ نحو عام.
(2) إستمرّت هذه الحرب الضارية والدمويّة من أيلول 1980 حتى آب 1988، وأوقعت نحو مليون قتيل من الطرفين، إضافة إلى خسائر مالية بلغت نحو 400 مليار دولار أميركي.
(3) هي أكبر حركة معارضة إيرانيّة، وأكثرها نشاطًا، علمًا أنّ تاريخ تأسيسها يعود إلى العام 1965، على أيدي مثقّفين وأكاديميّين إيرانيّين، وهي لعبت دورًا مهمًا في إسقاط "نظام الشاه"، قبل أن تختلف مع نظام الحُكم الجديد، وتُصبح حركة محظورة بعد إعدام الآلاف من أعضائها، مع الإشارة إلى أنّها كانت مُصنّفة أميركيًا ضمن قائمة "المنظمات الإرهابيّة" قبل رفع إسمها منذ سنوات قليلة.
(4) تضمّ حقلاً نفطيًا كبيرًا يُنتج نحو 26,000 برميل من النفط الخام يوميًا، علمًا أنّ إقليم الأحواز ككل يُعتبر أهم مصادر إستخراج النفط والغاز في إيران.