سواء كانت محاولة الانقلاب في تركيا من تدبير أردوغان نفسه، للبطش بمعارضيه وتحقيق حلمه بفرض النظام الرئاسي، أو كانت من فعل "الكيان الموازي" الذي يقوده الزعيم البارز فتح الله غولن المقيم في أميركا، ويتهمه أردوغان بهذه المحاولة ويطالب أميركا بتسليمه لتركيا، أو أنها كانت انتفاضة "متواضعة" من ضباط الجيش، نتيجة السياسة الخارجية التركية والتدخُّل بشؤون الدول المجاورة، فإن السبب المغيَّب عن كل هذه الفرضيات هو في إعادة أردوغان التطبيع مع "إسرائيل"، وإحياء 60 اتفاقية دفاعية معها سبق وأُبرمت في بداية العام 2010، وجُمِّدت على أثر حادث الباخرة التي كانت متوجّهة إلى غزة، وقضى على متنها تسعة أتراك، لكن كل هذه الفرضيات يجب ألا تدعو اللبنانيين إلى أن تقوم قيامتهم ابتهاجاً بفشل الانقلاب في تركيا، خصوصاً طرابلس وصيدا وسعدنايل، وسواها، حيث كانت الوقفات التضامنية بالأعلام التركية واليافطات وصور رجب طيب أردوغان، في مواقف لم تعُد مستغرَبة من بعض اللبنانيين، عبر تقديم الطاعة ليس فقط لكل ما هو غير لبناني، بل لكل ما يشكّل تحدياً لا قيمة له ولا تفسير سوى استفزاز شركاء الوطن، سيما أن تركيا ترمز أكثر من سواها لأسوأ حقبة استعمار عرفها التاريخ المعاصر، وذاق اللبنانيون مرارة استعبادها لهم أكثر من سواهم.

وإذا كان المتضامنون مع "الإخواني أردوغان" هم أنفسهم من يعلنون الولاء لـ"ولي الأمر وطويل العمر" الملك السعودي، ويقدّمون واجب الطاعة باسم اللبنانيين لأسيادهم يقفون مباشرة خلف إشعال الشرق؛ بتجنيد وتدريب وتمويل الإرهاب، فإن سهام التحدي دائماً موجهة إلى الداخل اللبناني، وتأتي ضمن سياق مسلسل متواصل منذ التحرير عام 2000 حتى انتصار تموز 2006، وخلال العقد الماضي (2006/2016)، بحيث يشهد لبنان محاولات انقلابية يومية عبر مواقف تحريضية على المقاومة، ومحاولات متكررة لاستدراجها في الداخل إلى معركة لا تريدها.

ومادمنا في أجواء انتصار تموز المجيد، فإن "ويكيليكس" أسهبت في سرد المواقف الانقلابية لمن راهنوا خلال عدوان تموز على هزيمة المقاومة، ووصلوا إلى حدود التواطؤ مع العدو الصهيوني وأميركا ضد السيادة اللبنانية، واستمر التآمر إلى ما بعد تحقيق النصر، وأوردت "ويكيليكس" مسلسل كشف فضائح تآمر فريق 14 آذار على المقاومة وسلاحها خلال حرب تموز 2006، ومراهنة هذا الفريق الكاملة على الدعم الأميركي ووقوفه إلى جانب "إسرائيل" في حربها على لبنان، ومحاولتها التخلُّص من حزب الله، ومن كل حليف لهذا الحزب، ودور رئيس الحكومة يومذاك فؤاد السنيورة في المؤامرة الدولية على المقاومة، بمساندة من الرئيس سعد الحريري وآخرين من هذا الفريق.

الانقلاب الأكبر كان في العام 2007، وبدأ من "نهر البارد"، وهو مستمر، وكان مرسوماً للبنان أن ينطلق منه ما يسمى "الربيع العربي"، وإذا كان 7 أيار 2008 هو المحاولة المباشرة لاستدراج المقاومة إلى حرب داخلية، فإن تمدُّد العدوان على الجيش اللبناني والسيادة اللبنانية إلى طرابلس وعكار وبعدهما عبرا وعرسال، مع ما رافق ذلك من تحريض ضد الدولة ودعوة الجيش إلى الانقسام والتمرد، والتهديد باحتلال قصر بعبدا، هي جميعها محاولات تجييش فاشلة للشارع السُّني للانقلاب على "دولة حزب الله"؛ كما يحلو لـ"دواعش" الداخل من مسلمين ومسيحيين تسميتها.

وإذا كانت "ويكيليكس" قد أوردت محاولات الحريري لتقويض التحالف بين حزب الله وحركة "أمل"، بهدف "تعويم أمل" كممثل أول للشيعة في لبنان، على حساب حزب الله الخارج من حرب تموز منهكاً مرهقاً، وفق تقديرات الحريري، إضافة إلى محاربة حلفاء الحزب من المسيحيين، وفي طليعتهم العماد عون، وإدخال الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران إلى قصر بعبدا، فإن استمرار الحريري في استجلاب كافة الضغوطات السياسية الإقليمية إلى الساحة اللبنانية، هو بحد ذاته الانقلاب المتمادي ليس فقط على كرسي الحكم، بل على صمام أمان السيادة الوطنية، ومواجهة علنية لكل الانتصارات السيادية منذ أيار 2000 حتى تموز 2006، والمواجهة مستمرة حتى العام 2017، مادام الحريري يحمل في جيبه عشرات النواب كأدوات تعطيل سعودية للاستحقاق الرئاسي.

وإذا كانت بعض الشراذم اللبنانية قد ابتهجت واحتفلت بفشل الانقلاب التركي، فهي لا بد لها أن تتوقع فشلاً ذريعاً لكل الانقلابات التي حصلت وستحصل في لبنان، وإذا كان الرهان على أن انتصار أردوغان على معارضيه سيترجَم نصراً له في سورية، وبالتالي سينعكس في لبنان انتصاراً لأعداء المقاومة، فإن تموز اللبناني لن يسمح بانسحاب تموز التركي على اللبنانيين، وأردوغان قد نقل البندقية إلى داخل بلاده لمواجهة حركات انقلابية يتوقعها لاحقاً، وقد ينقلب السحر على الساحر في الشمال السوري، وتنتهي آخر فصول الانقلابات الوهمية التي قد تغيّر من واقع توازن القوى في لبنان، وما على المراهنين على ترياق إقليمي سوى إعادة انتشار وتموضع قريبة، لأن تجيير الإنجازات الإقليمية غير قابل للصرف على الساحة اللبنانية.