تعقد القمة العربية اجتماعها العادي في نواكشوط بعد أن اعتذر المغرب عن استضافتها لقناعته عدم توفر الظروف الموضوعية للخروج بقرارات فاعلة تعبّر عن تطلعات الشعوب العربية. لكن هل بانتقالها إلى نواكشوط ستعبّر القمة عن تطلعات وآمال وطموحات الشعوب العربية في ظلّ الانقسام الحادّ بين الدول العربية حول قضايا ومسائل مصيرية، لا سيما أنّ القرارات الحاسمة، والتي للأسف لا تُصنع داخل البيت العربي وإنما خارجه، فهناك مَن يقرّر ويُملي ويأمر، وهناك مَن يرضخ ويطيع وينفّذ؟
عناوين قمة نواكشوط عديدة، و«همّة» العرب ستصب عليها… فمن فلسطين إلى العمل العربي المشترك، إلى الأمن القومي العربي، إلى مكافحة الإرهاب.. وغيرها، عناوين لم تتغيّر وتظل ملازمة لاجتماعات الجامعة العربية وقممها، التي تكرّر بياناتها وأدبياتها ومفرداتها التي تجاوزتها الأحداث والتي لا تُسمن ولا تغني من جوع.
دعوات وقمم، مؤتمرات ومراسم، صخب وضجيج، حفاوة وأبّهة وأعلام تُرفع وأزياء تُعرض، وموسيقى تُعزف، وبث مباشر من الفضائيات يُنقل… يظنّ العالم لأول وهلة أنّ قرارات خطيرة وهامة ستصدر عن القمة، قد تغيّر مجرى التاريخ العربي الحزين، وهو الذي يرقب ويشاهد على مدى عقود تعاسة العرب وهزالة قممهم وعقم سياساتهم.
تريد القمة أن تتناول القضية الفلسطينية من جوانبها كافة. فهل فعلت القمم يوماً ما تستحقه فلسطين وشعبها الصامد، وما يلجم العدوان الصهيوني المتواصل على أرضها منذ عام 1948 وحتى الآن؟
هل فعلت القمم العربية على مدار عقود ما يحول دون القضاء على حلم الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم، وتهويد القدس، وحصار الأقصى، ومصادرة الأراضي، وزرع المستوطنات، والإمعان في إذلال الفلسطينيين واعتقالهم؟
ما الذي فعلته القمم حيال مقاطعة إسرائيل وردعها والعمل على إجبارها على احترام القرارات الدولية وتعبئة القوى العالمية لمواجهتها واستخدام ما تملكه من مقومات القوة والضغط والمال والطاقة وغيرها، بدلاً من أن يهرول البعض باتجاه العدو ذلاً وجبناً وخنوعاً ويطبّعوا العلاقات معه على حساب القضية وحساب الأمة كلها؟
أي أمل تنتظره فلسطين من القمم العربية، وإسرائيل بقرارها المانع من تأدية الفلسطينيين صلاتهم في المسجد الأقصى، والمذلّ لكل العرب والمسلمين على السواء، لم يحرك نخوة، وشهامة مسؤولين ومروءتهم أمام إسرائيل التي تمعن في حصار الفلسطينيين وتدميرهم، ومع ذلك يعانقونها كل يوم بلا خجل ولا حياء ولا كرامة؟ وما الذي ستفعله القمة في نواكشوط وما هي القرارات التي ستتخذها حيال القدس وحق العودة وحدود 1967؟
أي أمل ينتظره العرب من قمتهم، وهناك من بداخلها بلّل يديه بدماء السوريين والعراقيين واللبنانيين والليبيين واليمنيين والتونسيين والبقية تأتي، وقدّم للوحوش البشرية التي عاثت في دولنا قتلاً وذبحاً ودماراً، كل وسائل الدعم المالي والعسكري والمعنوي في أشهر قليلة، ما لم يقدّمه لفلسطين ومقاومتها منذ النكبة عام 1948 وحتى اليوم، ليقرّ في ما بعد بعجزه ويقول على الملأ، إن البعض منهم نعاج، وهم ينسّقون مع العدو الإسرائيلي ويتواطؤون معه؟!
أي أمل ينتظره العرب من قمتهم ازاء العمل العربي المشترك، وهناك من يعمل سراً وعلانية مع قوى الهيمنة والعدوان على تقويض أنظمة ودول عربية، جُرمها أنها تغرّد خارج سرب قوى التسلّط والسيطرة وعملائها الدائمين ومرتزقتها في المنطقة؟!
أي قرار ينتظره العرب من قممهم بعد 26 قمة عربية عادية وتسع قمم طارئة، وثلاث قمم اقتصادية، ولا زالت البطالة في العالم العربي تطال 20 مليون عاطل من العمل، وأكثر من ثلث سكانه البالغ عددهم 360 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، و35 بالمئة من سكانه يغرقون في الأمية، في الوقت الذي أنفقت فيه 14 دولة عربية عام 2014، 181 مليار دولار في المجال العسكري، وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP؟!
كيف يمكن للشعوب العربية أن تلمس جدّيّة وصدقيّة القمم العربية في مكافحتها للإرهاب، وهناك من دعم الإرهاب ودرّبه وحرّضه ولا يزال، يقدّم له أشكال الدعم والرعاية كافة؟
وكيف يمكن للقمة أن تعالج الوضع المتفجّر الدامي في سورية وهناك مَن كان داخل الجامعة العربية على مدار سنوات يعمل بكل حقد وشراسة على تدميرها تحت ذرائع كاذبة واهية، بهدف مساعدة الشعب السوري على تحقيق الحرية والسلام والاستقرار، حيث كان رئيس وزراء قطر السابق الشيخ حمد بن جاسم المحرك الأول لقرارات الجامعة العربية ضدّ سورية، ليكشف النقاب بعد سنوات لصحيفة الفاينانشال تايمز يوم 21 نيسان/ابريل 2016 ليقول بالحرف: «عندما بدأنا التحرك في سورية عام 2012، كان لدينا ضوء أخضر، بأن دولة قطر هي التي ستقود !!! لأن المملكة العربية السعودية لم ترد في ذلك الوقت الجلوس أمام مقعد القيادة. ثم حصل تغيير في السياسة…. وانتهى الأمر بأن نتنافس مع بعضنا البعض وهذا لم يكن صحيّاً…». وهنا نسأل: مِمَّن استمدت الجامعة العربية ومعها الشيخ حمد بن جاسم نخوتها وشهامتها وهمتها لتفعل ما فعلته في سورية؟ ومِمَّن تلقت الضوء الأخضر؟! وهل كان الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي على علم مسبق بهذا الضوء الأخضر، وهو الذي دعم بدون حدود جهود بن جاسم واندفاع الجامعة في اتخاذ قراراتها؟! فإن كان الأمين العام لا يعلم فتلك مصيبة، وإن كان يعلم فالمصيبة أعظم.
كيف يمكن للجامعة العربية وقمتها أن تصون العمل العربي المشترك، عندما يتدخل فريق عربي داخل الجامعة بالشؤون الداخلية لدول عربية أخرى كسورية أو العراق أو ليبيا أو اليمن أو غيرها، ويزعزع فيها الاستقرار والأمن ويلحق بها الدمار والخراب والتهجير؟ وكيف يمكن لها أن تكافح الإرهاب وتضع ذلك في برنامج عملها، وهو نفسه حمد بن جاسم يعترف بـ «أن دولة قطر دعمت فصيلاً في ليبيا فجر ليبيا وحركة الإخوان بينما دعمت الإمارات فصيلاً آخر كتائب الزنتان . وكان الفصيلان متناحرين، وفي النهاية كان هناك الكثير من الطبّاخين ولذلك أفسدت الطبخة».
تُرى هل هناك اليوم داخل القمة طبّاخ واحد أم طباخون عديدون؟ وهل هناك من طبخة حقيقية موادها وطعمها ونكهتها عربية، وطابخوها عرب حقيقيون، أم أن الطبخة فاسدة أصلاً؟
كيف يمكن للقمة تحصين الموقف العربي والحفاظ على استقلالية وسيادة القرار السياسي والاقتصادي العربي الموحّد تجاه دول العالم في الوقت الذي يعترف فيه حمد بن جاسم من «أن منطقة الخليج ظلت تتحكّم بأسعار النفط من أجل مصالح أميركا والغرب». ترفع الأسعار وتُخفضها على مدى ثلاثين عاماً، حسب هذه المصالح. ليتساءل بن جاسم بعد ذلك ويقول: «بأن الإيرانيين أذكى من العرب كثيراً وأطول صبراً منهم». بالطبع، بن جاسم على حق، بأن الإيرانيين أذكى بكثير من بعض المسؤولين العرب، لأن الإيرانيين بوعيهم وإدراكهم وحسهم الوطني وكرامتهم، أبعد ما يكونون عن الغباء والتبعية والذل كي يضعوا نفطهم في خدمة مصالح أميركا والغرب على حساب سيادتهم واستقلالهم وقرارهم الحر، وحتى لا يقولوا بعد ذلك أن هناك من هو أذكى منهم.
هل كانت القمم العربية السابقة على اطلاع مسبق بالدور الذي أنيط بقطر، والضوء الأخضر الذي أعطي لها وهي تتبنى قرارات مجلس وزراء الخارجية العرب حيال سورية التي حاكها بكلّ دقة الشيخ حمد بن جاسم؟
أيّ أمل ينتظره العرب من قمتهم، وشعب الصومال ينزف منذ عقود على مرأى من الأمة كلها، وشعوب سورية والعراق ومصر واليمن وليبيا تواجه الإرهاب والدمار، وحركات انفصالية تلوح في أفق عالمنا العربي، بدأت في السودان ولا نعرف كيف تنتهي. وفكر تكفيري مُدمّر مُشبع بروح الكراهية والقتل والحقد ورفض الآخر، والقِمَم لم تتوصل بعد إلى كشف حقيقته وتجفيف منابعه ومصادره، وإسقاط الأقنعة السوداء عن داعميه ومموليه وحاضنيه؟!
كيف يمكن للقمة أن تعبّر وتؤكد وحدتها وفعاليتها وصدقيتها وحيادها، وسورية التي تدفع الثمن الغالي في مواجهة الإرهاب المتدفق من المنطقة ومن أنحاء العالم، والمؤسّس للجامعة العربية، خارج القمة التي فيها يصول ويجول مَن عبث بوحدة سورية وسلامتها وأمنها وأمن المنطقة كلها على حساب دم شعوبها ونسيجها الوطني والقومي؟!
أيّ أمل ومستقبل ينتظره العرب من قِممهم عندما يضلّ بعض «العرب» ويقلبون كلّ المقاييس ويطيحون الحقائق والمنطق، فتصبح في مفهومهم المقاومة للعدو الصهيوني إرهاباً ويصبح الإرهابيون ثواراً، ويُستبدل العدو الحقيقي المهدّد للأمة كلها بعدو وهمي، فتصبح «إسرائيل» دولة صديقة وحليفة لمن أدمن على الخيانة والتبعية والعمالة والذلّ، وتصبح إيران عدواً تجب محاربته بكلّ الوسائل؟!
إنها عجائب العرب تراها في قِممهم… مديح وثناء… مجاملات وابتسامات، ملامة وعتاب، خلافات ومصالحات، شتائم وعناق، بيانات ونداءات… مبادرات بلا حسابات، حلاوة خطابات من طرف اللسان، وقرارات طيّ النسيان…
بعد سبعين عاماً على أول قمة عربية، تبقى فلسطين على قارعة طريق القمم العربية تنتظر… يمرّ عليها العرب كلّ عام مرّ الكرام… وتبقى الأمة تتخبّط بمشاكلها ومأساتها ومصائبها، تبحث عن خلاصها وعن الرجال الحقيقيين لإيقاظها من غيبوبتها، وهي لا زالت تبحث عنهم في زمن عربي تعيس قَلّ فيه الرجال.