بين الحين والآخر يعود مخيّم "عين الحلوة"(1) إلى الواجهة، مُترافقًا مع إشاعات عن قرب خروج الأمور الأمنيّة فيه عن السيطرة، وعن إحتمال تعرّض أمن صيدا والمناطق المحيطة لمخاطر كبيرة، لجهة وقوع مُواجهات مُسلّحة واسعة النطاق داخل المخيّم قد تنتهي بسيطرة جماعات إسلاميّة مُتشدّدة على "عين الحلوة" والمحيط، لتصبح مُتحكّمة بالنار بعاصمة الجنوب وبالطريق الدَولي. فهل هذا "السيناريو" الخطير والمخيف، والذي كثر الحديث عنه في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية، وارد وقابل للتنفيذ؟
لا شكّ أنّ الوضع داخل "عين الحلوة" تغيّر اليوم عمّا كان عليه قبل بضعة عُقود وحتى قبل بضع سنوات. فالزمن الذي كانت تفرض فيه حركة "فتح" سيطرتها التامة على المخيّم قد ولّى، ولم تعد المسألة تقاسمًا للسلطة مع حركة "حماس" و"تحالف القوى الإسلاميّة"، بل عبارة عن تعايش إلزامي مشوب بالتوتّر مع العديد من الجماعات المُسلّحة الصغيرة(2)، بعضها مُصنّف في خانة المتشدّد دينياً، وبعضها الآخر مُصنّف في خانة "العصابات المُسلّحة" و"قادة الأزقّة" وعملاء أجهزة إستخبارات خارجيّة. ومن بين المشاكل المُستجدّة، إزدياد مُؤيّدي هذه الجماعات المُتشدّدة دينيّاً ومذهبيّاً داخل أغلبيّة المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان وفي طليعتها "عين الحلوة"، نتيجة مجموعة من العوامل المُتراكمة، أبرزها:
أوًلاً: التغيّر الديمغرافي الناجم من توجّه العديد من اللاجئين من داخل سوريا ومخيّماتها إلى داخل المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان.
ثانيًا: تلقّي العديد من الجماعات المُسلّحة دعماً مالياً كبيراً من جهات إقليميّة مُختلفة، في مقابل تراجع تمويل القوى الفلسطينيّة التقليديّة.
ثالثًا: سهولة عمليّات "غسل الدماغ" التي تتمّ بخلفيّات دينيّة ومذهبيّة وسياسيّة، نتيجة إستمرار أجواء القتل والإحتقان المذهبي في المنطقة.
وتُقدّر قوّة هذه "القوى الإسلاميّة" مُجتمعة، بما لا يقلّ عن ألف مُقاتل، بعضهم جرى تجنيدهم حديثاً، علمًا أنّ إنتشارها لم يعد محصورًا بحيّ الطوارئ-التعمير، بل صار يمتد إلى حيّ حطين وحيّ المنشيّة، وحتى إلى نحو نصف مساحة المخيّم، ولوّ عبر مُربّعات صغيرة وشبه مفصولة عن بعضها من ناحية السيطرة الأمنيّة. والمُلاحظ أنّ تمدّد النفوذ الإسلامي مُستمرّ في خط تصاعدي واضح من خلال السيطرة على الجوامع، وتجنيد المزيد من الشبّان، وتأمين بيئة حاضنة في كل حيّ. والمُشكلة الكبرى أنّه لم يعد هناك أيّ مرجعيّة موحّدة يُمكنها ضبط تصرّفات المسلّحين الفلسطينيين داخل مخيّم "عين الحلوة"، حيث أنّ دور القوى الأمنيّة المشتركة التي يقودها "العميد" خالد الشايب محدود ويتطلّب غطاء سياسيًا دائمًا، وتدخّلات أمين سرّ القوى الإسلامية، الشيخ جمال خطّاب الذي يحظى بكلمة مسموعة في صفوف الكثير من "الإسلاميّين"، محصورة المهمّة أيضًا. ولعلّ السبب الأبرز وراء النجاح في تجنيب مخيّم "عين الحلوة" حمّام الدم حتى تاريخه يعود إلى "توازن الرعب"، بحيث تُدرك الأطراف كافة أنّ أيّ معركة داخلية ستكون مُدمّرة للجميع. وفي كلّ الأحوال، إنّ الجماعات الفلسطينيّة المُسلّحة الموالية للسلطة الفلسطينيّة تعلم علم اليقين أنّها ستكون مضطرّة لمواجهة أيّ محاولة لأن يفرض الإسلاميّون سيطرتهم المطلقة على المخيم بكل ما تملكه من قوّة عسكريّة، لأنّ سقوط "عين الحلوة" سيكون له وقع أحجار "الدومينو" على كل مخيّمات لبنان، وهو ما لا يُمكن أن تقبل به مهما كان الثمن. أكثر من ذلك، إنّ الجيش اللبناني المُنتشر في محيط "المخيّم"، والذي بحسب معلومات مُتقاطعة قام في المدّة الأخيرة بتعزيز وحداته بالسلاح والعتاد، لن يقف موقف المُتفرّج إزاء قيام أيّ طرف بتغيير الواقع القائم في "المخيّم" بالقوّة، وبمحاولة تعريض أمن صيدا والجنوب للخطر، حيث أنّ "سيناريو" سيطرة الإسلاميّين المُتشدّدين على المخيم ممنوع مهما كلّف الأمر.
والسلطة اللبنانية تُدرك تمامًا أن فشل حركة "فتح" في الحفاظ على إستقرار "عين الحلوة" سيُضطرّها إلى تكرار أحداث مخيّم "نهر البارد"(3)، لأنّ كلفة ذلك، ومهما كانت غالية، تبقى أقل ممّا سيدفعه لبنان ككل في حال سيطرة "الإسلاميّين المُتشدّدين" على المخيّم، لأنّه في هذه الحال ستتشجّع الكثير من "الخلايا النائمة" في البلاد على التحرّك، وستدخل أطراف حزبيّة لبنانيّة على خطّ المواجهة العسكريّة المُباشرة مع هذه الجماعات الفلسطينيّة، منعًا لتمدّد نفوذها داخل مدينة صيدا ومنعًا لتحكّمها بطريق الجنوب الحيوي. وبالتالي، إذا كان صحيحًا أنّ السلطة اللبنانيّة عاجزة عن توقيف الإرهابيّين الفارين إلى داخل مخيّم "عيم الحلوة"، منذ ما قبل إغتيال القضاة الأربعة في قصر عدل صيدا في 8 حزيران 1999، فإنّها ليست بوارد الوقوف موقف المتفرّج إطلاقًا في حال وقوع المحظور وتحرّك الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة للسيطرة على "المخيّم"، لأنّ أحدًا لا يُمكن أن يقبل أو أن يتحمّل نتائج تمدّد الشرارة التي قد تبدأ من المخيّم الصيداوي لتشمل مناطق واسعة من لبنان. وبكل بساطة، هذا "السيناريو" المخيف... ممنوع تنفيذه!
(1) يتوزّع اللاجئون الفلسطينيّون في لبنان، وعددهم نحو نصف مليون شخص تقريباً، على 12 مخيّماً، أكبرهم من حيث الكثافة السكّانية وليس الحجم الجغرافي هو مخيّم "عين الحلوة"، حيث يتوزّع ما بين 60 إلى 80 ألف نسمة في مساحة جغرافية بالكاد تتجاوز الكيلومتر المربّع!
(2) من الجماعات المُسلّحة الصغيرة، نذكر منها على سبيل المثال: "عصبة الأنصار" و"جند الشام" و"فتح الإسلام" و"كتائب عبد الله عزّام"، وحركة "أنصار الله"، و"الشباب المُسلم"، و"الحركة الإسلاميّة المُجاهدة" السلفيّة، إلخ.
(3) دفع الجيش اللبناني أكثر من 170 شهيدًا ومئات الجرحى في معركة ضارية إستمرّت على مدى 105 أيّام في صيف العام 2007، وإنتهت بالسيطرة الكاملة على المخيّم.