تصرّفَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد فشل الانقلاب العسكري، كما كان متوقّعاً من كلّ ديكتاتور يلتحف بديمقراطية ناقصة... فلم يقُم بانقلاب على الانقلاب الفاشل، كما قيل، وإنّما انقلب على مفاهيم الدولة الديمقراطية.فأعلنَ حالة الطوارئ وراح يلاحق كلّ مشتبَه به، سواءٌ أكان في الجيش أو موظفاً في دوائر الدولة، وخصوصاً أولئك الذين لا يدينون له بولاء مطلق... حتى ولو كانوا لا يؤيّدون الانقلابين بما قاموا به... لم يبتكر أردوغان في تصرّفاته «الاحترازية» أسلوباً جديداً، بل قلّد أولئك الذين سبقوه.
فعشيّة فشلِ الانقلاب كان أمام خيارين، الاوّل الانقضاض على أعداء الداخل بحجّة الحفاظ على أركان الدولة، أمّا الاحتمال الثاني فكان فتحَ حربٍ على الخارج من أجل شدّ أزر الشعب التركي وراءَه بحجّة وجود خطر محدِق على الأمّة ... فاختار أن يبطش في الداخل، ويهاجم الخارج كلامياً، متّهماً دولاً غربية بدعم الانقلاب... من دون أن يكترث لكلّ التحليلات التي تؤكّد أنّ تصرفاته القمعية، ستؤسّس عاجلاً أم آجلاً لثورة جديدة، فلا صوتَ عنده يعلو فوق صوت القبض على مفاصل الدولة بيَد من حديد...
حالة الرئيس التركي وتصرّفاته لا تخرج عن سياق تصرّفات المتمسكين بالسلطة بأيّ ثمن. وتاريخ البشرية يعطينا أمثلة كثيرة عن ديكتاتور استغلّ حادثةً ما مِن أجل التخلّص من مناوئيه ومعارضيه، حتى ولو كان اعتراضهم مِن ضمن القواعد والأطر القانونية والديمقراطية.
والغريب في كلّ ذلك أنّ أحداً من أولئك لم يتعلّم من التاريخ أو من أخطاء وتجارب من سَبقه، وكأنّ الزمن والخبرات السياسية والحزبية تبدأ به وتنتهي عنده... والإشكالية الأخرى أنّ أحداً مِن أولئك لا يريد أن يطوّر أداءَه، سواءٌ في الشكل أو في المضمون.
فالتخوين جاهز، والاتصال بالعدو تهمة حاضرة تُلقى على كلّ معارض ويسوّق لها من دون حقّ الدفاع، واستعمال الإعلام من أجل تحطيم الآخر أمر مشروع، وتسخيرالقضاء من أجل التضييق عليه مسموح ومرحَّب به. أمّا الهدف فواحد، لا معارضة ولا اعتراض وإنّما ولاء مطلق للمتزعّم لا للوطن أو الحزب أو المؤسسة.
قد يقول قائل بأنّ السرد أعلاه لا يستقيم مع الواقع، «فالتاريخ لا يعيد نفسَه» وحركته لا تتوقّف. وهذا أمرٌ صحيح فيما لو اعتبَرنا أنّ التاريخ هو مجرّد سردِ أحداث ماضية، لا يمكن إعادتها إلى ساحة الحاضر أو المستقبل.
ولكنّ الإنسان هو الإنسان، في كلّ زمان ومكان، يعمل وفق أهوائه ومصالحه الشخصية ويحاول أن يسيطر على كلّ ما يقع تحت يديه، خصوصاً إذا كان في موقع السلطة.
من هنا دور الشرائع والمثل والقيَم في الحد من أنانيته وتصرّفاته الفردية، أي أن تعمل هذه القيَم على تطويره في تعاطيه مع الشان العام. وفي حال لم تستطع أن تُحدثَ تاثيراً فيه يعيدُ التاريخ نفسَه من دون أدنى شكّ، وهذه حالة كلِّ حاكمٍ مطلق ودكتاتور ظالم.
أمام كلّ التجارب، القديمة منها والحديثة، هنالك أمرٌ واحد أكيد وهو أنّ أسواء أنواع الحكم هي الديمقراطيات الناقصة والمزيّفة التي تشبه إلى حدّ كبير القبورَ المكلّسة؛ ظاهرُها جميل وداخلها قبيح لا بل مخيف...إنّ تركيا أمام ثورات جديدة، لا شكّ في ذلك، وكذلك كلّ نظام جائر ظالم سيَسقط أمام حركة التاريخ الحقيقية التي تقود إلى مستقبل لا مكانَ فيه لديمقراطيات مزيّفة.