يوماً بعد يوم، وكلما ازداد بطش أردوغان في الداخل وترهيبه للمعارضين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، ازداد الشرخ بين الأتراك والأوروبيين، وبينهم وبين الأميركيين، ولأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي ولغاية اليوم يعيش حلف الناتو وضعاً صعباً، حيث وصلت حدّة الانقسام وعدم الثقة بين أعضائهإلى درجة غير مسبوقة.
يتهم الأتراك الموالون لرجب طيب أردوغان الولاياتِ المتحدةَ الأميركية بالضلوع في محاولة الانقلاب، أو على الأقل معرفتها به، ويعتبرون قاعدة انجرليك المركز الرئيسي لـ"المؤامرة"، وفي ردّ صريح على الأميركيين، قام الأتراك بقطع الكهرباء عن تلك القاعدة التي يستعملها الأميركيون في حربهم ضد "داعش"، وإغلاق الطرق منها وإليها، وإغلاق مجالها الجوي.
ومؤخراً، نقلت صحيفة"يني شفق" التركية الموالية للحكومة، عن مصدر عسكري تركي أن الجنرال الأميركي المتقاعد جون إف. كامبل؛ قائد قوات المساعدات الدولية السابق لإرساء الأمن في أفغانستان "ISAF"، هو الرأس المدبّر والمنظّم لعملية الانقلاب، وأنه زار قاعدة انجرليك مرتين بشكل سرّي، وأنه تمّ تحويل مبالغ مالية ضخمة عن طريق الاستخبارات الأميركية CIA، من فرع"مصرف أفريقيا المتحد" في نيجيريا إلى تركيا لدعم الانقلاب، ولشراء ولاءات الضباط الأتراك. وتشير الصحيفة إلى أن صرف الأموال تمّ بناءً على دراسة مشتركة أجريت في النصف الثاني من عام 2015، بالتعاون بين الأميركيينوضباط تابعين لفتح الله غولين، تهدف إلى معرفة ميول وأصول وشخصيات جميع الضباط العاملين في الجيش التركي، لإغرائهم واستمالتهم.
وبغض النظر عن مدى صحة الاتهام، الذي نفى الأميركيون مراراً معرفتهم المسبقة به، أو المشاركة فيه، فإن العلاقات الأميركية التركية، والعلاقات التركية مع الحلفاء في حلف الناتو بشكل عام لم تكن في أحسن حالاتها قبل الانقلاب، ولن تكون كذلك بعده، خصوصاً في ظل إصرار الأتراك على المطالبة بتسليم فتح الله غولن، وهو أمر من الصعب على الأميركيين القيام به، مهما كانت الأهمية الاستراتيجية لتركيا.
في الواقع، تعقّدت العلاقات بين أعضاء حلف الناتو في السنوات الأخيرة كنتيجة للحرب السورية، فالأوروبيون تعرضوا للابتزاز التركي في موضوع اللاجئين، وصدرت اتهامات عدّة لتركيا بدعم الإرهاب. أما الأميركيون فكانوا أكثر صراحة؛ ففي مقابلة الرئيس الأميركي باراك أوباما في "ذي أتلانتيك"،بعنوان "عقيدة أوباما"، وصف الرئيس الأميركي نظيره التركي رجب طيب أردوغان بأنه "فاشل واستبدادي، ويرفض استخدام جيشه الضخم لجلب الاستقرار لسورية".. كما يمكن الإشارة إلى المفاوضات الصعبة التي قادها الأميركيون مع الأتراك للحصول على موافقتهم على استخدام قاعدة انجرليك لضرب "داعش" في سوريةوالعراق، وأخيراً وليس آخراً، الوعود التي قطعها وزير الخارجية الأميركي جون كيري لإغلاق الحدود التركية - السورية أمام "داعش"، ولم يستطع أن يحصل من الأتراك على أي منها.
فما هو مصير حلف الناتو بعد محاولة الانقلاب الفاشلة والاتهامات التركية للأميركيين؟ ومن المستفيد؟
- الأكيد أن تركيا لن تكون ركناً أساسياً يُركن إليه في استراتيجيات حلف الناتو في الشرق الأوسط في المدى المتوسط والقصير، ويمكن أن نشهد خلافات بين تركيا وأعضاء حلف الناتو، خصوصاً مع الأوروبيين، نتيجة انتهاكات حقوق الإنسان المستمرة.
- قد يتذرع الأتراك بمحاولة الانقلاب الفاشلة لابتزاز أعضاء الحلف، وقد يكون آن الأوان لأردوغان للانتقام من حلفائه الأوروبيين في حلف الناتو، الذين رفضوا دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وخذلوه مراراً في موضوع التدخُّل العسكري في سورية وإنشاء المنطقة الآمنة، كما يأخذ الأتراك على أعضاء التحالف الدولي لقتال "داعش" دعمهم للأكراد وتعزيز نزعتهم الانفصالية.
وهكذا، في خضم هذا المشهد المعقّد، يمكن القول إن أول المتضررين من محاولة الانقلاب الفاشلة سيكون حلف الناتو، بينما المستفيد الأكبر من ذلك قد يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يهمّه عرقلة مساعي توسيع حلف الناتو، الذي يتمدد ليطوّق روسيا، ويقوم بنصب بطارايات الدفاع الصاروخي في أراضي أوروبا الشرقية،فكلما ضعف الحلف، ارتاح الروس وارتبكت أوروبا، والعكس صحيح.
ليس من المؤكد أن أردوغان قد يغيّر سياسته السورية ويقبل بحل سوري كما يريده النظام وحلفاؤه،لكنه على الأقل سيكون محرَجاً في علاقاته الخارجية مع حلفائه الأميركيين والأوروبيين، ومحرَجاً في الداخل الذي يحتاج إلى إدارة واهتمام غير مسبوقَين، لذا لن يكون أمامه سوى الروس الذين سينتهزون الفرصة الذهبية لاحتضانه وتقويض حلف الناتو من الداخل.
لقد بات حلف الناتو محرَجاً بالوضع التركي اليوم، فخروج أنقرة من حلف الناتو سيقوّض مستقبله، بينما بقاؤها فيه سيُدخل الانقسام إلى الحلف، وسيضع استراتيجية توسيع حلف الناتو على المحك.. المؤكد أن فلاديمير بوتين سيلتقط تلك الفرصة الذهبية، ولن يفوّتها.