مغادرة الرئيس الحريري للسعودية قُبيل عيد الفطر الماضي، بنى عليها البعض آمال التعويم المادي والسياسي، وذهب البعض الآخر في التفاؤل إلى درجة أنه ذاهب لتسلُّم مفتاح السراي بالتزامن مع انتخاب رئيس للجمهورية في آب المقبل، لكن يبدو أن ذهابه ليس أقل مأساوية من رحيله في بداية العام 2012، لأنه في تلك السنة غادر وهو خاسر لرئاسة الحكومة ومقتدر مادياً بعض الشيء، لكن مغادرته الأخيرة جاءت بعد خسارته بلدياً، والرجل مفلس وعاجز عن دفع رواتب موظفي "سعودي أوجيه" في السعودية، ورواتب مؤسسات "المستقبل" في لبنان، وإذا كان الحل لـ"سعودي أوجيه" قضى ببيع معظم أسهمه فيها لسعوديين، فإن مؤسسات "المستقبل" أشبه بسلعة غير قابلة للبيع بالمزاد السياسي، لأن الحريري لا يستطيع بالحوار الوطني الشامل، ولا بالحوار الثنائي مع حزب الله، ولا حتى بالحوار الثلاثي المرتقَب مع بدايات الشهر المقبل، الخروج من شروط "الإقامة الجبرية السياسية" في السعودية.
من جهته، أخذ الوزير أشرف ريفي مكانه الطبيعي ضمن نطاق بلدية طرابلس، وثبت نهائياً أنه ولو انتصر بلدياً فيها، فلن يكون زعيماً للسُّنة في لبنان كما نادت به طرابلس، فلا هو مسموح له التمدد نحو عكار بوجود النائبين معين المرعبي وخالد الضاهر، ولا هو مقبول بيروتياً وصيداوياً، ولا هو مرحَّب به في عرسال.
وإذا كان الوزير نهاد المشنوق هو المنافس الأقوى للحريري نحو السراي، لكن الرجل ليس زعيماً يدّعي أنه يمتلك الشعبية في الشارع السُّني، ولأن عرسال هي الآن "خنجر المماحكة" بالمقاومة، فالحريري وحده يقود معركة عرسال، لأنها آخر المعارك السعودية الإقليمية على الأرض اللبنانية، وما يحصل في هذه البلدة منذ إعلان النتائج البلدية والاختيارية يؤكد أن السعودية لن تمرر الأمور على خير، لأن عرسال، ووحدها عرسال، هي التي تستطيع فرض التوتير المباشر مع بيئة المقاومة كلما حققت هذه المقاومة نصراً مع الجيش السوري على "جماعة السعودية"، سواء في أرياف حلب أو ريف دمشق، أو جرود عرسال بعد حادثة القاع والرد النوعي للمقاومة عليها.
المعركة في عرسال على "لبنانية عرسال" فُتحت منذ هزيمة رئيس البلدية السابق و"زلمة الحريري" علي الحجيري، وهزيمة شقيق "أبو طاقية" في المعركة الاختيارية، إلى أن جاء تصريح رئيس البلدية الجديد باسل الحجيري، وموقفه المسؤول من عملية قتل والد الجندي الشهيد حمية لابن شقيق أبو طاقية، ودعوته لأن تعالَج الأمور عبر القضاء اللبناني، وحرصه على حُسن الجوار مع "المحيط الشيعي"، وجاءت زيارة وفد عرسال برئاسته إلى قيادة الجيش، والمطالبة بأن تتسلم الدولة اللبنانية كافة المفاصل الأمنية داخل عرسال وفي جرودها، كما الفتيل التفجيري بأيدي الرافضين لمبدأ دخول الدولة، ووردت الرسالة التحذيرية التي تحمل صفة التنفيذ الفوري للتهديد الذي لم يأخذه رئيس بلدية عرسال وأبناؤها على محمل الجد، رغم أنها تضمّنت عبارة "ستدفعون الثمن إن تم التعرض لنا"، وبدأ فعلاً تدفيع الثمن عبر الاعتداء على المختار محمد علولة، ومحاولة اغتياله بعدما حاصره مسلحون على دراجة نارية وآخرون في آلية بزجاج داكن وأمطروا سيارته بوابل من الرصاص.. علولة الذي وضعه المسلحون في جرود عرسال خلال آب 2014 على اللائحة الأولى التي ضمت يومذاك نحو سبعين اسماً نزح معظمهم عن البلدة، فيما تمّت تصفية آخرين، وبدأ الإرهابيون مجدداً باستهداف علولة عبر لائحتهم الثانية التي تضم بين 10 إلى 16 اسماً من أبناء عرسال "الموالين للدولة"، وضمنهم رئيس بلديتها باسل الحجيري.
ليست عقدة عرسال مقتصرة على الغرباء عنها من إرهابيي "داعش" و"النصرة" المحاصَرين في الجرود، الذين يتصرفون بردود الفعل بعد خسائرهم في العراق وسورية، وبعد خسارة خمسين في المئة من الأراضي التي احتلوها في العراق، وضاقت عليهم ساحتهم السورية الخلفية المتصلة بجرود عرسال من جرود القلمون إلى الرحيبة، وبعد فشل الهجمات الانتحارية في القاع في تحقيق اهدافها، بل إن عقدة عرسال الكبرى أنها آخر موقع تماس مباشر للإرهابيين مع الدولة ومع المقاومة، وآخر "معقل عسكري" للحريري على الأراضي اللبنانية يمكن أن يستثمره في أي حوار مع حزب الله، والهدف سعودي أكثر منه محلي سُنّي، وكي يكون الحريري جديراً بـ"الأمانة السعودية"، عليه أن يحقق نصراً عسكرياً جزئياً عبر "الحجيري إخوان، أبو طاقية وأبو عجينة"، وإذا كان البعض يعتقد أن هذا النصر هو وهم، نقول له: نعم، لأن الرئيس الحريري بنى الكثير من الأمجاد على الوهم، والآن يجد نفسه محكوماً بالحسابات السعودية، ولا يمكنه أن يقول للسعودي: "شحّدني وأنا سيدك"..