لم يكن سهلاً على العقل الصهيوني ومن ورائه العقل السياسي الأميركي أن يهضم أو يستوعب الانتصار الذي حقّقته المقاومة في لبنان في تموز 2006. هذا الانتصار العظيم المبارك الذي حيّر خبراء الاستراتيجيّات في العالم لم يكن سوى صورة وتمثّلاً لعقل إلهيّ وإنساني أدرك أهميّة المقولات الأساسية للسياسة والفكر، على رأسها الحرية ومعانيها وأبعادها. لم يعايش التحالف الصهيو-أميركي، ولا حتى العربي، تصميماً وإرادة وقوة لمقاومة أو لنظام عربي أو عالمي كالذي عاينه وخبره مع المقاومة؛ قيادة ومجاهدين وبيئة شعبية حاضنة للمقاومة.. حتى العقل العربي الحاكم المهزوم لم يصدّق أن في هذا الوطن الممتد من البحر إلى البحر من يستطيع أن يقف بوجه المد الأميركي الغازي المنفلت من عقاله، خصوصاً أن هذا العدوان التموزي أتى بأوامر أميركية لقيادة صهيونية هزيلة مجرمة.
كان بعض العرب يصفّق للغارات الصهيونية على الضاحية والجنوب والبقاع.. لأنهم كانوا يأخذون موادّ عقولهم من مكاتب الاستخبارات الصهيو-أميركية، وما خطر على بال هؤلاء جميعاً أن شكلاً ومضموناً جديدَين تمتلكهما هذه المقاومة العظيمة.
هذه المقاومة حددت عدوها بشكل جيد؛ الذي يحتل فلسطين، وامتلكت الإرادة والقدرة، ووضعتهما في مسار الصراع الوجودي مع هذا العدو، وكل ما يعيق مسير المعركة مع هذا العدو لم يكن من أولويات المقاومة.
كل ما يعزز قدرات المقاومة ويجعلها في مواقع القوة كان يحضّر ويُعدّ بكل ممكنة.
المقاومة كفعل كان العنوان الأبرز لوحدة المقاومين وبيئتهم وحلفائهم، وثقافة المقاومة وأبوابها من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر كانت الحصن المتين الذي تسلحت به المقاومة.
ما أدرك العدو الصهيوني تصميم المقاومة وقيادتها على الانتصار، وما فهم تطوُّر وتقدُّم العقل المقاوم بعد هزيمة عام 2000، من هنا أبدعوا كل الحركات والمنظمات الإرهابية، والأنظمة التي تدعمها، من أجل تشويه ثقافة المقاومة والإضرار بها ووقف قدراتها.. في سورية والعراق ولبنان وفلسطين.. وما استطاعوا.. فما أدركوا أن عقلاً بذوره الكرامة والحرية سيكون عنوان الانتصار.. لأن الجنة عند المقاوم هو الانتصار أو الشهادة العاقلة أمام تحدي وجودي. الانتصار جنة والهزيمة نار وجهنم، لأن الانتصار هو ثقافة، والهزيمة عدم القدرة على فعل الثقافة وتمثّلها.
فلا الأنظمة المهزومة التي تريد أن تسجّل دعماً للعدو الصهيوني (خصوصاً في مؤتمر موريتانيا وقبلها) بوَصم المقاومة بـ"الإرهاب"، ولا العدو الصهيوني قادرين على إضعاف حركة المقاومة، ولا الحروب المالية التي تُخاض ضد بيئة المقاومة تستطيع أن توقف عقلاً عن التفكير والإعداد لانتصارات مقبلة..
القضية هي الشعوب العربية التي آن لها أن تنتصر للمقاومة لأنه انتصارٌ لذاتها.. ولأن التكفير والإرهاب والمذهبية المقيتة والقطرية البغيضة كلها تبقي الشعوب العربية قابعة في ظلمات التخلف والتسلّط والتدخل الأجنبي وفقدان حرية الوجود الإلهية.
لأول مرة في تاريخ هذه الأمة - ومنذ قرون - يرتفع صوت مقاومة مسجّلاً حروفاً على صفحات نورانية المنشأ ورساليّة المضمون ومديدة الانتصارات، فما أعاق همجية الاغتصاب الصهيوني إلا المقاومة التي ترسم معالم شرق أوسط جديد مقاوم، يزدهر مع كل انتصار من أقصى أرض "العرب" إلى لب قضاياها - فلسطين.