يشهد لبنان هذه الأيام، حراكاً سياسياً وشعبياً متدرجاً في تصاعده تحت عنوان مهم وأساسي، ويعني أغلبية اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم وأطيافهم، وهو إقرار قانون انتخاب يحقق صحة وعدالة التمثيل في البرلمان، يرتكز إلى التمثيل النسبي ولبنان دائرة وطنية واحدة وخارج القيد الطائفي، لاسيما وأن الانتخابات البلدية الأخيرة، وما نتج عنها أكدت ضرورة اعتماد النسبية الكاملة لضمان عدم إقصاء أو إلغاء قوى أو فعاليات أساسية تحظى بنسبة كبيرة من التمثيل لا تقل عن القوى والفعاليات التي فازت في هذه الانتخابات بفارق عشرات الأصوات أحياناً، أو بضعة أصوات في أحيان أخرى.
ولاشك أن إقرار مثل هذا القانون سيكون له أثره الكبير في احتواء الأزمة المتفجرة في البلاد منذ نحو عقد من الزمن، وفتح أفق حقيقي لإشراك جميع القوى والفعاليات في الحصول على حصتها من التمثيل النيابي بحجم ما تمثل من كتل شعبية، الأمر الذي يسهم في تحقيق أمرين مهمين:
الأمر الأول: وضع حد لاحتكار التمثيل النيابي من قبل بعض القوى النافذة في السلطة التي تعيد إنتاج نفوذها وهيمنتها على الحكم عبر القانون الأكثري، وبالتالي إدخال دماء جديدة إلى قبة البرلمان.
الأمر الثاني: إعادة الحياة الديمقراطية إلى قلب المؤسسات وتفعيل الرقابة والمحاسبة لمحاربة الفساد المالي والخروج على الأنظمة والقوانين، وإقرار الموازنة وفق القواعد القانونية التي تفرض إجراء قطع الحساب بما يضمن تحقيق آليات الرقابة على إنفاق المال العام.
ومثل هذا الأمر ينقل الصراع السياسي من الشارع إلى قلب المؤسسات ويطلق حيوية جديدة ويفسح المجال في تنشيط عمل مؤسسات الدولة لتحقيق مصالح المواطنين، وإلى جانب كل ذلك فإنه يصبح بالإمكان إطلاق عجلة العمل لحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية والعمل على الإسراع في بدء ورشة استثمار النفط والغاز في البحر والبر، للمساهمة في حل هذه المشكلات من جهة وإطفاء الدين العام الذي يرهق كاهل الدولة والمواطنين من جهة ثانية.
ولهذا كله فإن مفتاح حل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخدماتية المستفحلة، إنما يكمن في إجراء الانتخابات النيابية على أساس قانون التمثيل النسبي الذي يعيد تكوين المؤسسات وفق قواعد ديمقراطية عادلة بدءاً من البرلمان ومرورا بانتخاب جديد للجمهورية وانتهاءً بتشكيل حكومة جديدة تحظى بثقة البرلمان وبذلك تعود عجلة تداول السلطة إلى الحياة من جديد.
لكن مع ذلك فإن السؤال الهاجس الذي يؤرق اللبنانيين هو، هل الطبقة السياسية الحاكمة ستقبل بإقرار قانون انتخاب يعتمد النسبية الكاملة؟
جميع من ينشطون هذه الأيام من قوى سياسية داخل السلطة وخارج السلطة لفرض النسبية يدركون جيداً أن أطرافا أساسية في السلطة ترفض النسبية لأن اعتمادها سيؤدي إلى تقليص حصتهم النيابية، وزيادة حجم الكتل النيابية المعارضة لتوجهاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن بالمقابل يدرك الجميع أنه من دون اعتماد النسبية لا يمكن الخروج من الأزمة وفتح أفق للتغيير والإصلاح في البلاد، وستبقى الدولة ومؤسساتها شبه مشلولة، أو أن أداءها يعتريه الثغرات الكبيرة في ظل غياب الرقابة والمحاسبة، مما يؤدي إلى انتشار الفساد واستفحاله، وهو ما كشفه مسلسل الفضائح المتواصل على أكثر من صعيد.
ولهذا يبدو من الواضح أن الخروج من هذا المأزق السياسي والواقع المتردي إنما يستدعي تحركاً سياسياً وشعبياً ضاغطاً يجبر الطبقة السياسية على إقرار قانون النسبية الكاملة، وهو أمر يتطلب تضافر وتكتل جهود كل القوى والفعاليات والهيئات التي تؤيد وتدعم نظام التمثيل النسبي والعمل على تشكيل ميزان قوى قادر من خلال التحرك الواسع والقوي في الشارع وداخل السلطة، عبر القوى المؤيدة للنسبية، من فرض هذا المطلب الذي يحظى بتأييد الغالبية من اللبنانيين.
وفي هذا السياق عقدت مؤخراً سلسلة من الاجتماعات لأحزاب وقوى وفعاليات سياسية وأهلية وشكلت الهيئة الوطنية من أجل النسبية وعقدت مؤتمراً صحفياً في ساحة رياض الصلح وأعلنت فيه عن برنامج للتحرك يبدأ باعتصام في 2 أغسطس المقبل في أول أيام انعقاد طاولة الحوار الوطني التي ستناقش قانون الانتخاب، وترافق هذا التحرك أيضا مع تحركات أخرى لقوى سياسية وهيئات أهلية تحت ذات العنوان.
لكن من الواضح أن المهمة الأصعب، والمحلة في الوقت نفسه، تبقى في مدى قدرة هذه القوى السياسية والأهلية على تعبئة الشارع وحشد طاقاتها وجهودها لتكوين قوة ضغط كبيرة، وبالتالي ميزان قوى قادر على منع أي التفاف على مطلب إقرار قانون انتخاب يعتمد النسبية الكاملة.
إن تحقيق مثل هذا الهدف الوطني الهام يتطلب بالضرورة الابتعاد عن الأنا والعمل على الإسراع بعقد مؤتمر وطني تدعى إليه كل الأطراف والهيئات والفعاليات التي تؤيد النسبية من دون استثناء باعتباره الهدف الذي يطمح إلى تحقيقه الجميع، وهذا يتطلب أيضاً وضع الخلافات السياسية حول القضايا الأخرى جانباً، والتركيز فقط على كيفية العمل لفرض النسبية التي تشكل نقطة إجماع بين قوى وتيارات من مشارب مختلفة.
إن بلوغ هذا الهدف ليس بالأمر السهل ويحتاج إلى جهود كبيرة ومتواصلة في الزمن المتبقي لموعد انتهاء التمديد الثاني لمجلس النواب الحالي في مايو المقبل، والذي يوجب إجراء انتخابات نيابية في شهر يونيو الذي يليه، لاسيما وأن التمديد مجدداً للمجلس النيابي أمر شبه مستحيل، بعد أن جرت الانتخابات البلدية وسقطت ذريعة الظرف الاستثنائي، وإذا لم يكن هناك من الآن قوة ضغط كبيرة متصاعدة يوما بعد يوم لفرض النسبية الكاملة قبل الوصول إلى انتهاء المدة القانونية لمجلس النواب، فإن اللبنانيين سيكونون عندها أمام خيار من اثنين:
إما اتفاق تسوية على قانون جديد مختلط يعتمد النسبية في دوائر، والأكثرية في دوائر أخرى وهو قانون يعتبره المؤيدون للنسبية التفافا وإجهاضا لمطلبهم بالنسبية الكاملة.
وإذا تعذر الاتفاق على قانون جديد يتم إجراء الانتخابات على أساس القانون الحالي وهو قانون الستين، وهو أمر تحبذه أطراف أساسية في الطبقة السياسية.
إلاّ إذا أصرت القوى المؤيدة للنسبية داخل السلطة على رفض المشاركة في الانتخابات على أساس قانون الستين، ورفضت في الوقت نفسه إجراءها على أساس القانون المختلط، ففي هذه الحالة سيكون لبنان أمام مرحلة جديدة نوعية من تفاقم أزمته، مع انتهاء شرعية البرلمان.