لا تحتاج إلى أن تكون فيلسوفاً سياسيّاً لكي تفهم مبدأ التمثيل النسبي في أيّ عمليّة انتخابيّة. لكن، وهذا مفهوم، ستجد الرافض لهذا المبدأ، لأي سبب كان، يُبدع في تأكيد صعوبة فهمه من جانب «عامة الناس». طبعاً، اللبنانيون يعرفون هذا النوع من السياسيين، الذين أصبحت لازماتهم هذه مُكرّرة حدّ المَلل، وهؤلاء قد عمّروا في الحياة السياسيّة طويلاً، ثمّ جعلوها وراثة، وهم، لسبب ما، لا ينقرضون.
المُهم، التمثيل النسبي يعني، باختصار: إن حصلت لائحتك على 20 في المئة من عدد أصوات المقترعين، مثلاً، فستحصل على 20 في المئة من عدد مقاعد البرلمان. هذه هي بكلّ بساطة. هذه هي الأسطورة التي يدّعي البعض صعوبة فهمها. ليست هي نسبيّة آينشتاين، أبداً. بالتأكيد، ثمّة تفاصيل تقنيّة كثيرة، تختلف من بلد لآخر، ومن نظام لآخر، ولكن المبدأ هو نفسه. أما مبدأ التمثيل الأكثري، المرعب في تخلّفه، والمعمول به حتى اللحظة في لبنان، فإنّه يعني الآتي: إن حصلت لائحتك على 49 في المئة من عدد أصوات المقترعين، فستحصل على لا شيء، صفر مقاعد في البرلمان. أما من حصل على 51 في المئة، فإنّه سيحصل على... كل شيء. هكذا، نظام تمثيل «ديناصوري» لا مثيل له في دول العالم (غير المَوزِيّة).
من الضروري التذكير الدائم بهذه البديهيات. أجيال تلتها أجيال، والحديث في لبنان شغّال عن التمثيل النسبي، والنتيجة: لا نتيجة. يموت من يموت، ويولد من يولد، ويشبّ من يشبّ، لتجد نفسك معنيّاً بأن تُذكّر دائماً بأن «واحد زائد واحد» لا يساوي سبعة. مهزلة لا بدّ منها. عبدو سعد، أحد الذين لم يملّوا، على مدى عقود، من توضيح هذه الواضحة. سعد، مدير مركز بيروت للأبحاث والمعلومات، والنجم الذي يملأ الشاشات في كل موسم انتخابي، يقول الآتي: «التمثيل النسبي ليس مجرّد قضيّة عدالة تمثيل، بل هو قضيّة وطنيّة، لأنّ من خلاله يمكننا بناء دولة. نحن الآن لسنا في دولة، بل نعيش، بمعنى ما، في دولة مؤجّلة». وينطلق سعد سارداً أصل الحكاية: «النسبيّة اختُرعت في أواخر القرن التاسع عشر، في الدانمارك وبلجيكا تحديداً، وذلك بهدف حماية حقوق الأقليّات بمختلف أنواعها، الإثنيّة والعرقيّة والثقافيّة والدينية وغيرها. أمّا نحن في لبنان، فكلّنا أقليّات، وكلّهم يقرّون بهذا، وبالتالي لو لم يكن في العالم شيء اسمه النسبيّة، لوجب علينا نحن أن نخترعها». ويضيف، وقد استفزّه وجود من لا يزال يتحدّث عن قانون تمثيل أكثري، قائلاً: «المشكلة لدينا في لبنان أننا لم نبنِ دولة بعد، بسبب زعماء الطوائف والإقطاع، الذين هيمنوا على المؤسسات العامة وعززوا الزبائنيّة، وكلّ هذا بسبب نظام الانتخاب الأكثري المتخلّف». أمّا عن النقاش الدائر هذه الأيّام، والحراك الشعبي المُطالب بإقرار النسبيّة، في ظل تعدد طروحات القوانين الانتخابيّة، يُعلّق: «بوضوح، نحن في لبنان لا يصلح لنا إلا قانون التمثيل النسبي الكامل، الكامل غير المجزأ والمرقّع، على أن يكون لبنان دائرة واحدة. أمّا هذا الذي نسمع عنه أخيراً، ما يسمى القانون المختلط، فإنّه مزحة. هذا قانون لا ينتج شيئاً مختلفاً عمّا ينتجه القانون الأكثري. وأنا أجزم، على فرض طُبّق، فإنّه لن يأتي بأيّ نائب جديد من خارج القوى المسيطرة على السلطة».
يدخل سعد في الشق التقني أكثر، في إيضاحه للتمثيل النسبي، قائلاً: «عندما يُقال نسبيّة، فهذا مقرون بقوائم انتخابيّة. لوائح يعني. كلّ حزب أو ائتلاف وما شاكل، يُشكّل لائحة وتُعرض على الناخبين، ليختار كل ناخب اللائحة التي يريد. كل الإضافات، بشأن الحاصل الانتخابي، وطريقة فرز الأصوات، من مهمّة الحكومة. ومن يرد التهرب من النسبية، يُدخل الناخب في عمليات حسابية، ليوهمه بأن النسبية أمر معقّد». كثيرة هي الأكاذيب، الوطنيّة وغيرها، التي ستسقط في حال إقرار قانون التمثيل النسبي وإجراء الإنتخابات وفقه. سيتم تنفيس كلّ المنتفخين. كثيرون ممن يأخذون اليوم أكثر من حجمهم، في اللعبة السياسيّة، ستفرِض عليهم النسبيّة أن يأخذوا حجمهم الطبيعي. لهذا قاتل هؤلاء، وما زالوا يُقاتلون، من أجل الإبقاء على قانون «الديناصورات» الأكثري. مِن البديهي ألا يُطلب من أحد أن يُقرّ، من تلقاء نفسه، قانوناً سيجعله «يَزمّ» في حجمه، وبالتالي يضمر نفوذه، أو يتراجع ولو قليلاً. ليس في الأمر ظلامة لأحد. مَن يستحق أن يكون فيسكون، هذه هي، لا مكان لـ»البلطجة الوجوديّة» في ظلّ النسبيّة. ولهذا، في المقابل، يُصبح مفهوماً، بالضرورة، نزول الناس إلى الشارع لفرض النسبيّة فرضاً، كحق لهم. أكثر من ذلك، كواجب، خاصة لمن لا يزال يتمسّك بهذه البلاد، كوطن، ويُريد لأولاده، الحاليين أو المؤجلين، أن يعيشوا هنا.