رغم كلّ "الضجّة" التي سبقتها بفعل الحركات الاعتراضية داخل "التيار الوطني الحر"، والتي أوحت أنّه ليس في أفضل أحواله، خصوصًا بعد صدور قرارات فصل بحقّ عددٍ من قياديّيه بتهمة مخالفة النظام الداخلي، مرّت المرحلة الأولى من الانتخابات التمهيدية في "التيار" بسلاسةٍ وسلام.
وفي حين ذهب البعض للتمييز بين مرشحين "باسيليين" من جهة، في إشارةٍ لمن هم محسوبون على رئيس التيّار جبران باسيل، ومرشحين "عونيين" من جهة ثانية، في إشارة إلى معارضي نهج الأخير، أو على الاقلّ من ليسوا مقرّبين منه، فإنّ الأكيد أنّ التيّار "البرتقاليّ" ككلّ خرج رابحًا من الاستحقاق الديمقراطي، أقلّه في الشكل، وهو الذي قد يكون الأول من نوعه على صعيد الأحزاب في لبنان، وربما في المنطقة.
أفضل الممكن؟!
من حيث المبدأ، يمكن القول أنّ مجرّد حصول المرحلة الأولى من الانتخابات التمهيدية، بغضّ النظر عن أيّ تفصيلٍ آخر، يُعتبَر ربحًا لـ"التيّار"، خصوصًا في لبنان الذي، باستثناء الاستحقاق البلدي والاختياري الذي شهده مؤخرًا، قد يكون نسي معنى كلمة "انتخابات" و"ديمقراطية".
من هنا، استطاع "التيار" من خلال هذه الانتخابات ضرب أكثر من "عصفورٍ" بحجرٍ واحدٍ، فهو أولاً بنجاحه في تنظيم انتخاباته على مستوى كلّ الأقضية في لبنان، وبجو تنافسيّ صحّي، أثبت أنّ المجتمع اللبناني، الذي يشكّل "التيار" عيّنةً ممثّلة منه، مؤهَّلٌ لخوض كلّ الاستحقاقات. وهو ثانياً أدخل نظاماً انتخابياً جديداً ألا وهو نظام one man one vote، الذي وعلى الرغم من بعض "التحفّظات" عليه من هنا أو هناك، سلك طريقه نحو التنفيذ من دون تعقيداتٍ تُذكَر. وهو ثالثاً طبّق، أيضاً للمرّة الأولى في لبنان، مفهوم البطاقة الانتخابية المطبوعة سلفاً، مع صور المرشحين عليها، في سابقة على صعيد الوطن.
وإذا كان أحد "المكاسب" التي حقّقتها قيادة "التيار"، من خلال هذه الانتخابات، يكمن بـ"تنظيم" الاختلاف في صفوفه إلى حدّ ما، بنقله إلى المكان الصحيح أي صندوق الاقتراع بدل أن يكون على المنابر الإعلامية، فإنّ ذلك لا يحجب وجود بعض "المآخذ" التي تجعل من الاستحالة بمكان وصف ما حصل بأنه "عرس ديمقراطي"، باعتبار أنه "أفضل الممكن" ليس إلا. ومن أبرز هذه المآخذ، "الاستثناءات" التي تمّ الركون إليها، خلافاً للنظام المتّبَع، بحيث أنّ الكثير من الأسماء التي لم تكن تستوفي شروط الترشّح قُبِل ترشيحها بكلّ بساطة، كما عدم "تجرّؤ" أيّ من ناشطي "التيار" على الوقوف بوجه باسيل في عرينه البتروني على سبيل المثال. وفي وقتٍ حرصت قيادة "التيّار" على إعطاء المحازبين الانطباع بأنّهم "شركاء" في صنع القرار، وفي ذلك أيضاً إيجابية فريدة من نوعها، فإنّ الحُكم النهائي لن يصدر إلا مع انتهاء العملية الانتخابية برمّتها، خصوصًا أنّ "القرار الأخير" تُرِك لرئيس "التيّار"، الذي يبقى من حقّه أن يقفز على كلّ النتائج لو أراد.
مفاجآت معبّرة...
وبعيدًا عن الشكل، هناك الكثير الذي يمكن أن يُقال في مضمون النتائج التي أفرزتها الانتخابات في مختلف المناطق، خصوصًا لجهة تكريس موقع "الصقور" الذين حلّقوا عالياً في النتائج، وأبرز هؤلاء النواب سيمون أبي رميا في جبيل، وابراهيم كنعان في المتن، وآلان عون في بعبدا، والذين كانت الفروقات بينهم وأقرب المرشحين إليهم شاسعة.
وإذا كان بديهيًا أنّ هؤلاء فرضوا نفسهم "رقماً صعباً" في المعادلة "العونية" ولن يكون من السهل تجاوزهم في المرحلة المقبلة، ولو لم يكونوا "باسيليّي الهوى" إذا جاز التعبير، إلا أنّهم لم يحتكروا وحدهم "مفاجآت" هذه الانتخابات، التي أفرزت أسماء مناضلين قدامى وجُدُدًا ممّن كانوا بعيدين عن مراكز القرار والسلطة، إلا أنّهم أثبتوا حضورهم وحيثيتّهم، على حساب أسماء أخرى لها باع طويل في العمل النيابي والوزاري، على الرغم من كون المنافسة أصلاً "غير متكافئة" بين النواب الذين يوفّر لهم مركزهم ما يوفّره من نفوذ وخدمات وجاه، والقياديين الآخرين الطامحين للوصول للقب "سعادة النائب".
ومن الناشطين الذين قد تنطبق عليهم هذه المواصفات مثلاً فؤاد شهاب في بعبدا الذي حلّ رابعاً بفارق عشر أصوات فقط عن النائب حكمت ديب، وغير بعيدٍ عن النائب ناجي غاريوس، الأمر الذي إن دلّ على شيء، فعلى أنه، ورغم كونه أصغر المرشحين سناً، أثبت حضوره القوي، وبات يشكّل تهديداً حقيقياً للنواب الحاليين، كما حجز لنفسه حكمًا موقعًا متقدّمًا في أيّ مشروع تغييري، ومثله فعل غسان عطالله في الشوف الذي تفوّق على الوزير السابق ماريو عون، وجيمي جبور في عكار الذي تقدّم بأشواط على أقرب منافسيه.
هل خسر باسيل؟
وفي وقتٍ تبقى "العبرة" في المرحلة الثانية التي ستُخرج المنافسة من البيئة "العونية" إلى "الوطنية" ككلّ، فإنّ قراءة النتائج المتحققة لم يكن يمكن أن تكتمل من دون ربطها بالتجاذبات الحاصلة داخل "التيار"، خصوصًا أنّ الكثير من الفائزين ليسوا ممّن يحظون بـ"رعاية" رئيس "التيّار"، بل إنّ جزءاً كبيراً منهم مصنّفون في خانة المعارضين له. ولهذه الأسباب، ذهب الكثيرون للقول أنّ حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر في قاموس باسيل، وبالتالي أنّ الأخير قد يكون "الخاسر الأكبر" ممّا حصل. ولعلّ ما عزّز هذه الخلاصة أنّ "شبح" القياديين "المفصولين" من التيّار "البرتقالي" حضر في المعركة، ولو من دون مفاعيل قانونية، إذ انحصر دوره بـ"رسالة اعتراضية" معبّرة.
وإذا كان صحيحًا أنّ ما يسمّى بـ"المعارضة" داخل "التيار الوطني الحر" ناصفت "القيادة" بالنتائج، فإنّ الأصحّ أنّ لا خاسر بالمُطلَق أفرزته هذه الانتخابات، وأنّ الجميع "رابحون" بشكلٍ أو بآخر، خصوصًا أنّ النظام المتّبَع سمح لكلّ من له حيثية معيّنة بالانتقال إلى "الدور الثاني". وبالتالي، فإذا كان هناك من "عِبرة" يمكن أخذها من هذه الانتخابات، فهي ضرورة ركون جانبي القيادة والمعارضة على حد سواء للاعتراف بالحجم النسبي لبعضهما البعض، والانطلاق من ذلك للعلاج من الداخل، بعيداً عن ضجة المنابر الإعلامية، التي أثبتت التجربة أنّها ليست الوسيلة الأنجع للمواجهة.
بمعنى آخر، فإنّ هذه الانتخابات يمكن أن تدشّن مرحلة يكون ما بعدها مختلفاً عمّا قبلها، سواء من قبل القيادة التي لم يعد بمقدورها تجاهل المعارضين وأرقام بعضهم "المدوية"، أو من قبل المعارضة التي قد يكون عليها درس موقفها وقدراتها على التأثير على القرار من الداخل، خصوصًا في ضوء دخول رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون على الخط، وهو الذي قد تكون له "الكلمة الفصل" في الوقت المناسب.
تيّارات بدل التيّار؟!
قد لا يكون واقعياً الجزم بأنّ الانتخابات التمهيدية في "التيار" قد حمته من "الزلزال" الذي كان يمكن لسياسة "فصل المحازبين" أن تسبّبه له، كما لا يمكن القول في المقابل أنّ معارضي رئيس التيّار قد حقّقوا الانتصار الكاسح الذي من شأنه تغيير كلّ المعادلات.
الأكيد أنّ هذه الانتخابات شكّلت "فوزاً" للجميع، قيادةً ومعارضين، ولعلّ "الفوز المضاعَف" يتحقّق إذا ما أدّت إلى اعتراف كلّ "معسكر" بحجم "الشريك – الخصم"، وعندها فقط يمكن المباشرة بـ"العلاج" من الداخل، بعيدًا عن المنابر الإعلامية، وإلا يصبح ما يُحكى عن "تيّاراتٍ بالجملة" أمراً واقعاً، وأكثر!