ربّما يصحّ توصيف الثلاثية الحواريّة القائمة في الأساس على ثلاثية بحثيّة بخلوةٍ مخصّصة لاستسخاف عقول اللبنانيين بفُكَر ثلاثيّة الأبعاد وبطروحٍ تناساها واضعوها وهم أحياء يُرزقون يتحاورون، وما أفاقها سوى استشعار الرئيس نبيه بري باتجاه خلوته التي بُنيَت عليها آمالٌ وأحلامٌ الى تهالك شنيع. انتفض رجل الحلول على نفسه، أعاد جوجلة الأمور في رأسه ليتذكّر أنّ في الطائف طرحًا منسيًا مغلّفًا بتطوير النظام السياسي ومدعّمًا بإنشاء مجلس شيوخ.
هكذا قرّر ممثلو السلطتين التنفيذية والتشريعية متأخرين ضرب مبدأ فصل السلطات عرض الحائط وتزكية خيار مجلس الشيوخ الجوهري في صلبه من خلال رمي “فتّيشات” تشكيل حلقات نقاشٍ قد تثمر بدل الحلول إمعانًا في نخر جسد النظام الهزيل، وإن بدا لكثيرين أن مثل هذا المجلس يحمل وحده خلاص لبنان.
رغبة في “اللافشل”
هم أنفسهم أولئك الذيك عجزوا يومًا عن تشكيل حكومة تكنوقراط رغم طفرة المؤهّلين، سمحوا لأنفسهم اليوم في إحياء مجلس خبراء تُشرَك فيه الأمور وتتداخل ليغدو انتخاب رئيس الجمهورية رهنًا به، ولتصبح السلّة المتكاملة التي تحتضن ثلاث زوّادات رئاسية وحكومية وانتخابية قائمة في متنها على إشارة من مجلس الحكماء. للوهلة الأولى، يبدو إنعاش طروحٍ غمرها الغبار مسوّغًا برغبةٍ دفينة من عرّاب الحوار كما ومن داعميه لغاياتٍ ومصالح متفرّقة في الارتقاء به وعدم إفشاله في مرحلةٍ لا تحتمل مزيدًا من الفشل. اليوم الأول بدأ بـ”تقليعة” فاشلة أقرب الى يوم نقاهة في “برودات” مكيّفات عين التينة حيث خرج المتحاورون أفقر مما دخلوا بوجوهٍ عجزت حتى عن التفوّه بعبارة: “الأجواء إيجابية”. لم يقبض هؤلاء جديًا حكاية الخلوة التي حُكي طويلًا عن أنها ستكون مختلفة هذه المرة حدّ القول إن رئيسًا للجمهورية سيخرج متوّجًا في يومها الثالث ليتوجّه مباشرة الى قصر بعبدا. في اليوم الثاني اختلفت المشهدية نسبيًا، وبدأ البحث يلامس العمقيّات من دون أن يجرؤ على “وصم” الكلام بصيغة “اتُّفق عليه”. بدت الأمور أكثر إنتاجًا ولكن في الوقت عينه أشبه بفوضى طروحٍ متداخلة لا تعرف الى النفاذ سبيلًا، لا بل تبدو “يوتوبيّة” أقله على مستوى الوقت الذي يستلزمُه تطبيقُها. بقي بطل اليوم الثاني بلا شكوكٍ “مجلس الشيوخ” الذي لم يستولد اعتراضًا في الداخل بقدر ما يُتوقَّع منه أن يفترض ردود أفعالٍ مشكّكة من بعض الحريصين على الاستقرار الدستوري وما أندرهم.
ملفٌّ “بيّيع”
نظريًا، بقي ملف رئاسة الجمهورية “بيّيعًا” في “الأجندة سيتينغ” Agenda Setting الحوارية. فكلما “عطس” متحاورٌ بفكرة لا بدّ من ربطها بالأولوية الرئاسية رغم تمسّك فريق كبير بأولويّة قانون الانتخاب، وهو ما يحرص بري على البتّ فيه بربط المسألتين معًا بالتوازي. نسي الجميع “السلّة المتكاملة” وتركّز البحث حول اتفاق الطائف واللامركزية الإدارية ومجلس الشيوخ على أن يعود قانون الانتخاب الى بقعة الضوء في الجلسة الختامية اليوم. وفي حال التسليم “بصدق” نوايا المتحاورين إزاء إحياء “مجلس الشيوخ”، تساؤلاتٌ جمّة تقفز الى الواجهة: أهو طرحٌ جدّي قابلٌ للتنفيذ في حلقةٍ زمنية منطقية أم هو مجرّد ملهاةٌ وتعميقٌ إضافي لجروح اللبنانيين وتلاعبٌ وقحٌ بعقولهم؟ أهو صادرٌ عن جهةٍ مخوّلة أصلًا بإصداره؟ وماذا يعني تطوير النظام السياسي؟ أيفترض قادةُ الحرب وقوع حربٍ جديدة أو في أحسن الأحول نزاعٍ جديد ليولد تعديلٌ في النظام السياسي مفصّل على ما يحفظ ماء وجه اتفاق الطائف ويُبعِد عنه شبح التشكيك بجدواه؟
شراسة في الرأس الدستوري
سياسيًا، يقول أحد المراقبين لمسار الخلوة الحوارية “إن لا ربّ لهؤلاء” وهو ما يشي بأن الغايات المُعلنة قد لا تتطابق مع ما يرسمه المتحوّقون حول طاولة عين التينة. أما دستوريًا فيختلف النزاع وينحو الى أن يكون أكثر حزمًا وشراسة. يؤكد المرجع الدستوري والقانوني ورئيس منظمة “جوستيسيا” الحقوقية الدكتور بول مرقص لـ”صدى البلد” أن “أيّ بحثٍ راهن في النظام السياسي اللبناني يأتي لإمرار الوقت الضائع عوض تطبيق عماد هذا النظام السياسي الحالي ألا وهو الدستور اللبناني المُعلّق عمدًا بسبب سلوك كثيرين من الأفرقاء السياسيين. ومن جهةٍ ثانية، فإنّ أيّ مساس بالنظام السياسي الحالي يفترض نزاعاتٍ ستحوم إزاء كلّ حرفٍ فيه، ذلك أن التاريخ السياسي يشهد على أن التسويات المكتوبة والمواثيق والعهود اللبنانية إنما جاءت نتيجة صراعات ونزاعات طويلة، وغالبًا ما كانت دمويّة، ولم تأتِ يومًا نتيجة الحوار الراقي والمتّزن. ولعلّ أبرز مثاليْن حديثين على ذلك هما اتّفاق الدوحة الذي أتى بعد أحداث 7 أيار، وقبله اتفاق الطائف الذي تمخّض عن حربٍ طويلة ناهزت العشرين عامًا. والغريب أن معظم هؤلاء السياسيين عاجزون اليوم عن إبداء الموقف في ذلك الطرح وممارسة الفعل”.
مادة تسوية وحوار عقيم
أما عن طرح إنشاء مجلس الشيوخ فيعلّق مرقص: “كذلك طرح تأسيس مجلس الشيوخ أخشى أن يكون أيضًا بابًا لإمرار الوقت هو الآخر، والسبب أن هذا المجلس جاء النصّ عليه منذ وثيقة الوفاق الوطني في 22 تشرين الأول 1989 والتي صدّقها مجلس النواب في 5 تشرين الثاني 1989 وكُرِّست في المادة 22 من الدستور الجديد الصادر في 21 أيلول 1990، حيث جاء النصّ تكرارًا لما ورد في البند السابع من الإصلاحات السياسية في الطائف كما يلي: “مع انتخاب أول مجلس نوّاب على أساس وطني لا طائفي، يُستحدَث مجلسٌ للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياتُه في القضايا المصيرية”، وهذا النص جاء التأكيد عليه من قبل المشترع مراتٍ ثلاثًا: منذ 28 عامًا حتى اليوم من دون أن يلقى التطبيق أسوةً بأحكامٍ عدّة من اتفاق الطائف، لكنّه ما برح يشكّل مادة تسويةٍ وحوار عقيم لإمرار الوقت الضائع لكثيرين من القادة غير القادرين على اتخاذ مثل هذا القرار، ولكنّنا عوض ذلك أي عوض تأسيس هذا المجلس المهمّ الذي يبحث في القضايا المصيرية وهو مؤلّف من الحُكماء، جنحنا الى طاولات حوار خارج المؤسّسات الدستورية أو حتى على هامشها، سواء في بعبدا أم في سواها، كي نسوّغ تعطيل المؤسّسات. لأن هذه الطاولات، وإن أفضت الى قرار فلا يُطبَّق، وهي في مطلق الأحوال غير دستورية ولو صدر عنها القرار لأن مثل هذا القرار يكون متأتيًا عن ممثلي السلطتين التشريعية والتنفيذية في آن معًا وهذا يخالف مبدأ السلطات ويملي على المؤسسات قراراتٍ لا تكون قد اتُّخِذت خارجها”.
تغييرٌ صحّي؟
إذًا، ليس طرح مجلس الشيوخ جديدًا على الساحة اللبنانية وهو الذي كان مصيره مصيرَ العقد الاجتماعي المتهالك عند أقدام الطائف بسبب عدم التطبيق أو سوئه في أحسن الأحوال. ومع ذلك، لا يبدو إنشاء مجلس الشيوخ إنجازًا –هذا إن أبصر النور- بقدر ما هو استدراكٌ لبنود الطائف متى كان تسليمٌ إجماعيٌّ بأهميّة صموده وعدم أخذ البلاد الى مؤتمرٍ تأسيسي. وعليه، تبقى المعضلة الدستورية في الجهة الموعزة بتطبيقه والتي تُجلس أبناء سلطتين معًا الى طاولة واحدة ليعيدوا تثبيت ما يجب أن يكون مثبتًا أصلًا منذ 28 عامًا، أكثر منها معضلة ترتبط بمضمون المجلس في ذاته والذي قد يحمل في مكانٍ ما متى ترافق مع إلغاء الطائفية السياسية واللامركزية الإدارية تغييرًا صحيًا في نظامٍ تعتريه العلل.