بغض النظر عن الأرقام، والصراخ والاتهامات المتبادلة التي سادت مواقع التواصل الاجتماعي قبل الانتخابات التمهيدية للتيار الوطني الحر، وخلالها وبعدها، فإن أي مراقب موضوعي لتلك العملية الديمقراطية التي انفرد فيها التيار، لا يمكن إلا أن يسجّل ملاحظات عدّة تندرج في ما يلي:
أولاً: مجرد قيام الانتخابات التمهيدية، ومهما كانت الشوائب التي سادتها، تؤشر إلى أن التيار، وبرغم المصاعب التي تعترض طريقه، ما زال يشكّل حالة تغييرية ترتكز إلى الأسس الديمقراطية في اختيار مرشحيه للسلطة السياسية، وهي آلية تفتقدها معظم الأحزاب اللبنانية التقليدية.
ثانياً: أظهرت الأرض الأحجام بالأرقام، وهذا ما قد يوفّر جهداً ويقلل من الانتقادات التي سادت خلال انتخابات 2009؛ حين اعتقد كل مرشح للنيابة لم يسمِّه العماد عون أنه مظلوم، وأن للعماد عون تفضيلاته بين أبنائه. لن يكون هذا الكلام متاحاً بعد الآن، اللهم إلا إذا احتاجت التحالفات السياسية للتضحية بأحد الناجحين في منطقته، فمن يستطيع أن يقنع الناجحين اليوم أنهم لم يصبحوا نواباً بعد؟
ثالثاً: الترويج الذي مارسه المعترضون حول نتائج الانتخابات التمهيدية، وأنهم - أي "المعارضين" - شكّلوا الأكثرية الفائزة في معظم المناطق، يثبت دون شكّ وبشكل قاطع عدم صحة ما ساقه بعض المفصولين من أن التيار تحوّل إلى ديكتاتورية الفرد - الرئيس، وأن الاعتراض من الداخل غير ممكن، لذلك اضطروا لاستخدام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لإسماع صوتهم. لقد دخل هؤلاء في مسار من التناقض، فإن كان التغيير من الداخل مستحيلاً، كيف يمكن أن يربح المعارضون في معظم المناطق كما يقولون؟
رابعاً: لقد أثبت أهل التيار أنهم قادرون على المحاسبة والمساءلة، والمحاسبة هنا هي بالدرجة الأولى لبعض القياديين والمنسقين، الذين انفصلوا عن الأرض، وتصرفوا بعنجهية وفوقية مع المناصرين والناشطين من أبناء مناطقهم.
بعكس حالة ما قبل عودة العماد عون، حيث كان كل ناشط في التيار يجد نفسه معنياً بإيصال الرسالة للمستقلين، ويمارس التعبئة الدائمة لمن هم في محيطه، بعكس تلك الحالة الشديدة الالتزام، كان تصرف بعض "القياديين" منذ عام 2005 ولغاية الآن مشوباً بالتكبُّر وعدم الاكتراث بالتواصل مع "الأرض"، على اعتبار أن قربه من بعض المسؤولين، أو مجرد قدرته على زيارة العماد عون في الرابية تجعله في حلّ من العمل، وقادراً على الاستئثار بالسلطة..لكن قرار التيار بالعودة إلى القواعد الحزبية سيجعل من الصعب من الآن فصاعداً الاكتفاء بالطلات الإعلامية، والتبجيل للقيادة، أو الاتكاء على إرث تاريخي للاحتفاظ بالمناصب.
رابعاً: أثبتت الحالة العونية قدرتها على فرز قيادات شبابية جديدة، بغض النظر عن حجم مواردها المالية أو قدراتها الاقتصادية. نعم، إن نجاح الكثير من المناضلين الذين يحملون في سيراتهم الذاتية الكثير من النضال، يعطي أملاً للشباب الجامعي الجديد بأن المناصب السياسية في لبنان لن تكون بعد اليوم حكراً على الإقطاع القديم وأصحاب رؤوس الأموال وبعض متسلقي المناصب من الانتهازيين النفعيين، بل يمكن للشباب الانخراط في الأحزاب، والعمل من أجل تغيير حقيقي وجدّي في بنية وتركيبة السلطة السياسية في لبنان.
مع ذلك، يبقى من أكثر العلامات السوداء التي شابت هذه الانتخابات، قلة عدد السيدات المرشحات للانتخابات التمهيدية، ما سيؤدي إلى انعدام وصولهن إلى الندوة البرلمانية عبر التيار الوطني الحر.
يُسجّل على التيار بقوة عدم تشجيع السيدات على الانخراط في العمل السياسي، وعدم فتح المجال الكامل أمامهن لتبوّء مراكز نيابية ووزارية، فباستثناء وصول النائب جيلبيرت زوين لم يسجّل تكتل التغيير والاصلاح أنه حالة تغييرية حقيقية في موضوع دخول المرأة المعترك السياسي.
اليوم، وبعد نجاحهم في الامتحان الديمقراطي، لم يعد يكفي أهل التيار التبجح بأن ميثاقهم يؤكد على إيمانهم بالمساواة بين الرجل والمرأة، بل عليهم إقران القول بالفعل، لا بل بأكثر من الفعل: بفرض كوتا نسائية حقيقية للمناصب القيادية في التيار ولنوابه، وعدم الاكتفاء بالتذرع بأن المرأة لم تقدِم.. لكي تقدم، عليها أن تجد تشجيعاً كافياً ومستمراً ومتواصلاً وغير ظرفي.