جبيل مدينة المدائن وعروسةُ لبنان الحديث، بتاريخها وجمالها وتنظيمها وحُسن تدبيرها، سقطت منذ أيّام على خشبة مسرح مهرجانات بيبلوس الدوليّة، عندما سَمحت باستضافة المغنيّة العالميّة Grace Jones وفرقتها التي أساءت للصليب، علامةُ خلاص ورمز إيمان غالبيية أبنائها، في ظلِّ تصفيق المُصفقين وهيصة المُنتشين. ولِمَ لا، فالفنُّ الهابِطُ المستوردُ من ثقافة النفايات، وإن كان لا يليق بالمدينة وبأهلها، فإنّه يأتي بالسيّاح الذين يصرفون أموالهم في المقاهي والحانات التي تقتات منها العائلات الجبيليّة وتُعيلُ أبناءها، حتى ولو على حِساب الفضيلة والقيَم والمفاهيم الدينيّة والأخلاقية وغيرها؛ فهذه المفاهيم التي كانت في أساس المدينةِ منذ نشأتها، وأساس مُلكِ كلِّ الممالِك التي تعاقبت عليها، لَم تَعُد، وللأسف الشديد، صالحةً لهذا الجيل، ولا قادرةً على إطعام النّاس، ولا غروَ من استبدالها بأُخرى تتناسبُ مع روح العصر، وتتماشى مع الصيحات التي تجعل من المدينةِ عالميّةً، وتؤَثّر إيجابيّاً على المشهد الخارجيّ العامّ لتلك القائمة على السياحة.
أن تُقام الحفلات الموسيقيّة في جبيل لتلوّن الصيف بألوان الفرح حقٌّ، لا بل واجبٌ من المدينةِ تجاه أهلها. ولكن أن يُساء إلى المُقَدَّس في هذه الحفلات، فهذا نوعٌ من الوقاحة السافرة، ومن العهر الفنّي غير القبول في المدينة التي صدّرت الحرف وشكّلت الكلمة، ومن الكلمة كلّ ثقافةٍ وعِلمٍ وكِتاب.
إنَّ قلب جبيل، المدينةِ النابضِة بالحياة والصاعِدة صعوداً مُشَرِّفاً، لا يجب أن يتحوّل البتّة إلى قلبٍ مُهترىءٍ ومُلوّث بملوّثات الثقافة الهابطة؛ فالمدينةُ الفاضِلةُ هي تلك التي لا تُقدِّمُ أسباب الرفاهيّة لأبنائها ولزائريها وحسب، بل والتي تعمل على حماية الأخلاق والمُقدَّس، وتَعزيز القيَم على نحوٍ يفوق عملها وحرصها وحاجتها إلى الشُهرة والعالميّة والتطوّر والترقيّ والتمَدُّن، ذلك أنَّ ارتفاع المدينة وهبوطها لا يُقاس بمسببات التسلية والتطوّر، بل بالوصول بالفرد إلى أعلى درجات الكمال الإنساني.
فإلى جبيل المدينة المُشَرّفة، انتبهي إلى أبنائك وبناتِك. حافظي على ما أنتِ ومَن أنتِ، وعلى هوية الأصالة الروحيّة والثقافية والإنسانيّة المتجذّرة في تاريخك العريق، والمكونّة لشخصيتكِ المميزة. وإلاّ فسيأتي مَن يسرق هويتكِ منك، فيسرق بالتالي أبناءكِ، ويكون عندها هبوط المدينة عظيم.