استقللت الطائرة إلى بلد أحبه كثيرا، وأنا التي عبرت بي من قبل مئات الطائرات الأجواء والمحيطات إلى بلاد جميلة وبعيدة وغريبة... فقد عشقت الأسفار والترحال، وصار لي في كل مدينة أو جزيرة أو بلد ذكريات وقصص لا تنفد.
وأنا في طريقي إلى بلد المتعة والجمال، كان في جعبتي الكثير من ذكريات الزمن الجميل.
وطرت هذه المرة إلى بلد عشقه الكثيرون من أرقى الفئات وعظماء الدنيا، هو عندي أحد منابت الإبداع والحضارة والفكر الرفيع والفن الرائع والجمال..
لقد أحببت لبنان قبلًا، والآن صرت أحبه أكثر..
أحببته قبلاً من خلال أدبائه وشعرائه ميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، ثم الشاعر بشارة الخورى أو (الأخطل الصغير) الذى غنى له عبدالوهاب (الهوى والشباب والأمل المنشود، توحى فتبعث الشعر حياً). والبيت القائل: (لم يكن لي غد فأفرغت الكأس ثم حطمتها على شفتيّ)، وأغنية (يا ورد مين يشتريك)، و(الصبا والجمال).
أما ميخائيل نعيمة فقد عشت بين سطور فلسفته أعواما طويلة أمتص حكمته، وأقتدي بما يمليه عقله العارف من أفكار ومشاعر وتعاليم، وهو الذي «انعتق من المادية انعتاقا، بل لعله لم يؤمن بما يسمى مادة، ولعل في هذا ما يفسر فلسفته التى تتلخص فى مفهوم أو فلسفة (وحدة الوجود) وتعني الفناء المطلق في الله، حيث الفناء أقصى درجات المحبة».
وجبران خليل جبران الذى تناول علاقة الإنسان بالكون، فتحدث عن الله وأسرار الوجود والروح والجسد والزمن.. وغيرها من الموضوعات الصوفية الفلسفية، وقد آمن جبران بالتقمص الذي تقول به البوذية والهندوسية، حيث الموت ليس إلا انتقالاً من حياة إلى أخرى.
فقد تعلمت منهما (نعيمة وجبران) فلسفة الحياة فى باكورة الصبا.
وأشرد... متى كانت زيارتي الأولى إلى لبنان؟
كنت دون العشرين من عمرى، لم أزل طالبة جامعية تدرس الفلسفة فى كلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ولم أغادر مدينتي الإسكندرية أبدا، ولا حتى إلى أى مكان بمصر، وكانت الدعوة بمناسبة انعقاد أسبوع شباب جامعات البلدان العربية.
وأذكر الباخرة أسبريا، التى أقلتني من ميناء الإسكندرية، حيث البحر الشاسع، والزَّبد يتطاير حول السفينة، وأنا أرقب الفضاء الذى يحمل المستقبل المجهول مضطربة فرحة، حتى اقتربنا من ميناء بيروت المحاط بالصخور التي تتكسر فوقها الأمواج، ولم يكن لبنان أكثر أناقة وجمالاً من مدينتي الإسكندرية فى ذلك الوقت، لكن ناسه كانوا أكثر لباقة وحيوية.
وكانت الزيارة التالية بعد سنوات طويلة من ذلك التاريخ، إذ كنت أسكن طوكيو، بحكم مركز زوجي كسفير للكويت، وجاءنا وفد صحفي من لبنان للقيام بمهمة ثقافية، ثم دعوة من الأستاذ سعيد فريحة رئيس دار الصياد، وكانت زيارتي الثانية التى رسمت خطا ثقافيا واضحا فى حياتي بعد ذلك..
هذا هو لبنان، لبنان طه حسين وفكري أباظة وأحمد شوقي ومحمد عبدالوهاب، حيث كانت الطبقة العليا المثقفة أو الاجتماعية تصطاف في جبالها، وعلى شواطئها، ناعمين بخيرات لبنان.
وسألني المنوط به استضافتي: من تريدين أن تلتقي من أهل الثقافة هنا؟ فأجبته على الفور: أريد لقاء الشاعر نزار قباني، وكنت قد عرفت نزار من خلال قصائده، إذ كنا نتلهف على الجديد في الأدب والنقد، فكانت قصائد نزار تجتذبني لما فيها من تجاوز للصياغة التقليدية، إضافة إلى اتسامها بالبساطة والعفوية، وكان بين يدي (طفولة نهد)، و(قالت لي السمراء).
وجاء نزار لزيارتي في فندق سان جورج، الذي يفترش الساحل اللبناني، ودارت بيننا حوارات شعرية وآراء انتهت باقتراحه الانتقال إلى فندق شبرد في مصيف بحمدون، حيث يجتمع أهل الفن والثقافة، وهناك تحققت لي أمنية طالما راودتني على مدى سنوات حياتي، وهي لقاء موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، فقد كانت المرة الأولى التي ألقاه فيها وجهاً لوجه، لا صورة ولا سينما، بل وهو في أناقته وكبريائه..
كان يجول في أروقة الفندق بلا توقف، وكانت زوجته السيدة نهلة القدسي تجلس في الصالون، فبادرتها بالسؤال: لماذا يسير بلا توقف؟ وصخبت بالضحك قائلة: إنه يهضم الكوستين اللتين أكلهما، ويأتي عبدالوهاب ليجلس بيننا ممسكا عوده؛ ليدندن (ما أقدرش أنساك)، ونتعارف وتكون بداية صداقة كبيرة لم تنته إلا بموته..
أذكر عالية والكرز يفترش منعطفاتها.. ثم شتورة ذلك المصيف الشاسع الهادئ بأشجاره ونسائمه ورائحة زهور البرتقال ثم ألبان الفنانة بديعة مصابني، التي اتخذت به محلا لبيع الجبن ومشتقات اللبن، لما أدركتها الشيخوخة.
وكيف لا أذكر صوفر، ثم مصيف زحلة بهوائه العليل ومأكولاته الشهية وشلالاته تهدر بيننا؛ ليعلو صوت عبدالوهاب بأغنية (يا جارة الوادي)، التي نظمها شوقي في هذا المكان عام 1929 بفندق قادري بجارة الوادي، وكان معه محمد عبدالوهاب وفكري أباظة وموسى نمور وجبران توينى، وكانت بعنوان (زحلة) وتقول:
يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يُشبه الأحلام من ذكراك
ثم يختمها بأبيات:
إن تكرمي يا زحل شعري إنني أنكرت كل قصيدة إلاك
أنت الخيال بديعه وغريبه الله صاغك والزمان رواك
كما وجدت تمثالين لشوقي وعبدالوهاب في مدخل المكان، فلبنان يقدر الفن والعبقرية.
صوت فيروز يلاحقنى أينما توجهت (إسهار بعد إسهار تا يحرز المشوار، كتار هو زوار شو يوبيفلو وعنا الحلا كلو، وعنا القمر بالدار وورد وحكي وأشعار بس إسهار).
ومرة أخرى أزور لبنان، وكان ذلك منذ عشر سنوات مضت، وكانت صدمة مروعة، إذ فوجئت بالخراب واليباب، وتغير المجتمع، والناس فى ذهول، وسألت أين المسرح والطرب والمقاهي الغاصة بالجمال، أين الأناقة والفرح والترحاب والذوق الرفيع؟ وصدمت بل صعقت من أجل لبنان الجريح، ولم يعد في الجبل إلا بضع مقاه متناثرة ونساء يرتدين النقاب ومطاعم بها مأكولات فاسدة، وأسأل أين ذهب سان جورج فندقي الذي أحب، والإجابة احترق، وأين ذهب فندق بريستول؟ الإجابة: هدم، وأين شبرد بحمدون؟ أزيل.
بدت بيروت حزينة بين يدي لأول مرة في العمر، وذهبت مع النيَّة بألا أعود أبدًا.
إنها الحرب اللعينة التي أتت على الأخضر واليابس.
هذه المرة دعاني بعض الأصدقاء، فقلت: فلأذهب ليومين أو ثلاثة على الأكثر، ولم أتوقع أي فرح أو متعة... وفوجئت منذ وصولي المطار أن بيروت عادت إلى بريقها وأناقتها، فلم أصدق، وانتظرت حتى وصلت إلى الفندق.. ما هذا الرواء؟ ما هذه العظمة؟ أأنا فى باريس؟، بل لا يقل أناقة عن (جورج سانك). والتفت حولي فإذا بفتيات وسيدات يرتدين أفخر ما تقدمه دور الأزياء العالمية، ويتكلمن الفرنسية والإنجليزية، فوجدتني أغوص في أحد المقاعد الوثيرة مستمتعة بالأجواء العطرة والفنون العالمية، وجاءني الجرسون الأنيق بانحناءة يقدم لي (القهوة البيضاء)، وهي مياه ساخنة مع ماء الزهر- زهر البرتقال، وأغمضت عيني، لا شك أنني أحلم.
بعد لحظات خرجت إلى الشارع.. السيارات تسير فوق حرير، حيث لا صوت ولا حفر ولا عادم ولا غبار ولا ألفاظ نابية أو معارك مرور.. لا زحام ولا خناق، بل لا أصوات بالمرة، كأننا نسبح فى عالم من الأحلام الناعمة، سألت عن فندق البريستول، قيل لي لقد أعيد بناؤه وعاد كما كان، وفندق سان جورج، فقيل لي إن العمل مازال مستمرا لاستعادة جماله، فقد كان حادث مقتل رفيق الحريرى، رئيس وزراء لبنان، المروع بجواره حين احترق.. وبنايات شاهقة وجميلة ومعمار هندسي بديع يعمر طرقات بيروت والشاطئ الفيروزي مخلفا الدمار- مجددا للحياة، أما صناديق القمامة فتنزوي على استحياء بالأركان، بها أكياس مغلفة بالورق الملون..
يا الله.. لَكَم يحب هذا الشعب وطنه، فيحرص على مظهره ومنجزه، وها أنا فى بيروت أستعيد متعة لقائها بعد كل هذه السنوات، فقد تناولنا الغداء في مطاعم الروشة، حيث هناك صخرتان شامختان في قلب البحر يهدر بينهما الموج، حتى يصل إلينا الرذاذ في عطر العشب المبلول، ويقدم السمك مع فاكهة الكرز والريحان بدلا من الطماطم والخس، إنها الأناقة في الطعام والمكان، ورقي بلد لا يريد له أهله الهوان، وإذا شكرت الجرسون أجابك: ما عندنا إلا السياحة!
إنهم يعرفون كيفية جذب السواح..
تحية لشعب لبنان العظيم الذي عشق بلاده فجعلها جنة للزائرين.