بين الحين والآخر تعود قضيّة أراضي البطريركيّة المارونيّة في بلدة "لاسا" إلى الواجهة، من دون أن تجد قضيّة الخلاف على ملكيّة العقارات في المنطقة طريقها إلى الحلّ بعد، على الرغم من دخول مرجعيات كُبرى على الخط. لكن وأبعد من عقارات "لاسا"، فإنّ أراضي المسيحيّين على كامل حدود لبنان صارت في خطر مُتزايد وتصاعدي لأسباب متنوّعة. كيف ذلك؟

أوّلاً: خلال الحرب اللبنانيّة تقوقع المسيحيّون ضُمن مساحة جغرافيّة ضيّقة، وتحديدًا ضُمن ما عُرف في حينه بإسم "المنطقة الشرقيّة"، ومن بقي من المسيحيّين خارج هذه المنطقة إعتمد سقفًا منخفضًا في تعامله مع المحيط حرصًا على حياته. وساهم تهجير المسيحيّين من العديد من المناطق إلى إنقطاع جيل كامل عن أراضي أجداده، وإلى فُقدانه الرابطين المعنوي والمادي معها، إضافة إلى تأسيسه حياة جديدة في منطقة أخرى ضمن "المنطقة الشرقيّة" سابقًا. وقد دفع هذا الواقع إلى عدم تردّد الكثير من الملاك المسيحيّين في بيع أراضيهم، وغالبًا ما يكون الشاري من المُسلمين بسبب إحجام أغلبيّة المسيحيّين عن شراء أراض في مناطق يُصنّفها لا وعيهم "غير آمنة" نتيجة ما عانوه من تهجير وإضطهاد فيها خلال الحرب!

ثانيًا: الخلل الديمغرافي بين المسيحيّين والمُسلمين في لبنان في تصاعد مُستمرّ، وعلى الرغم من أنّ إجمالي الولادات في كل العائلات اللبنانيّة إنخفضت عمّا كانت عليه قبل بضعة عُقود، فإنّ نسبة زيادة السكان المُسلمين يفوق بشكل واضح نسبة زيادة السكان المسيحيّين، ولوائح الشطب الإنتخابية تُظهر التقلّص المُستمرّ لعدد الناخبين المسيحيّين في مقابل المُسلمين. وهذا الأمر ترجم طلبًا أكبر لشراء الأراضي وللسكن من جانب المُسلمين، الأمر الذي أسفر عن بيع المزيد من الأراضي التي كان يملكها مسيحيّون للبنانيّين مُسلمين، بفعل واقع العرض والطلب.

ثالثًا: الإختلاف في الأنماط الحياتيّة والإجتماعية بين المُسلمين والمسيحيّين اللبنانيّين، الأمر الذي يجعل المسيحي يتجنّب العيش في مناطق ذات أغلبيّة سكّانية مُسلمة، بعكس الكثير من المُسلمين الذين لا يتردّدون بشراء أراض ومبان في مناطق كانت مسكونة حتى الأمس القريب بأغلبيّة مسيحيّة. وإذا كانت بعض البلديات وبعض البلدات قد تنبّهت لهذا الأمر، وإعتمدت إجراءات لمنع تفاقمه، فإنّ الكثير من البلديات والبلدات الأخرى لا تزال تشهد هذا التحوّل الديمغرافي التدريجي الذي لا بُد أن ينتهي بتغيير معالم مناطق كاملة من الناحيتين الطائفية والمذهبيّة، خلال فترة زمنيّة غير طويلة.

رابعًا: عرض متموّلين إسلاميّين مبالغ كبيرة تفوق قيمة الأراضي الفعليّة لشراء أراضٍ للمسيحيّين، وقيامهم ببناء مُجمّعات تجاريّة وسكّانيّة ضخمة فيها، الأمر الذي يُساهم بدوره في تسريع وتيرة التحوّل الديمغرافي، خاصة وأنّ المُتموّلين المسيحيّين يحصرون إستثماراتهم بالمناطق ذات الأغلبيّة المسيحيّة.

خامسًا: توزّع المسيحيّين في لبنان على كامل مساحة الوطن بعكس المُسلمين الذين يتجمّعون مذهبيًا في مناطق مُحدّدة، الأمر الذي جعل الأقليّة المسيحيّة تشعر بأنّها مجموعة من الأقليّات الصغيرة جدًا في مختلف المناطق اللبنانيّة، خارج جبل لبنان. وهذا من العوامل التي ساهمت في توسّع إمتداد الطوائف الشيعيّة والسنية والدرزيّة في مناطق تجمّعها السابقة، على حساب المسيحيّين الذين تخلّوا عن أراضيهم طوعًا بسبب الحاجة إلى المال في بعض الأحيان، أو إكراهًا بحثًا عن مناطق يشعرون فيها بحريّة أكبر في مُمارسة شعائرهم وأنماط حياتهم.

في الخلاصة، لا شكّ أنّ الكثير من اللبنانيّين يعتبرون هذا النوع من التحليلات، بالكلام الطائفي والمذهبي المقيت والرجعي، علمًا أنّ هؤلاء أنفسهم يتنفّسون طائفيّة ومذهبيّة داخل جدران منازلهم وفي تربيتهم لأولادهم وداخل بيئات كل منهم. وطالما لبنان لا يزال بعيدًا سنوات ضوئيّة عن العلمانية وعن المواطنية الحقيقيّة، من الواجب التذكير أنّ خللاً متزايدًا يطال أراضي المسيحيّين، تارة بقوّة المال وطورًا بسطوة السلاح، وتارة بحكم الديمغرافيا وطورًا بفعل الإختلاف بمفاهيم الحياة وأنماط العيش. وقد حان الوقت لأن يتوقّف بيع أراضي اللبنانيّين المسيحيّين، حفاظًا على وجودهم وديمومتهم، وحان الوقت لأن تكون الإجراءات لتحقيق ذلك، من جانب المرجعيّات المسيحيّة الدينيّة والسياسيّة والدستوريّة، أبعد من تمنّ هنا ومن نصيحة هناك، لجهة إصدار قوانين كتلك التي إقترحها النائب ​بطرس حرب​ منذ بضع سنوات، ولجهة الوقوف بقوّة وبجدّية ضُدّ أيّ محاولة لتهجير المسيحيّين بأسلوب التخويف وضرب القوانين عرض الحائط، كما يحصل في "لاسا" أو سواها.